الجمعة، 9 نوفمبر 2012

من غينيا الى بيروت... لوحات تتكلّم وتساعد الفقراء






كانت الساعة الثانية عشرة ظهراً، وكان الهواء يشتد شيئاً فشيئاً. جلسنا في حديقة منزلها الخلفية، المليئة بالورود والاشجار الصنوبرية. احضرت مجموعة كبيرة من لوحاتها التي رسمتها في لبنان، بلدها الامّ، وفي غينيا الجديدة بلدها الثاني...

 كان الحذر شديداً من ان يحلّ تشرين علينا وتمطر السماء على غفلة، في بلد يتكدّس في مستقبله الضباب والغموض... انها مايا ابو فاضل العنداري، رسّامة وفنانة ترسم للامل والحب والفرح.
الحديث عن الفنّ والابداع في بلدنا بات اشبه بضرب من الجنون، في وقت يعصف القتل والارهاب من كل حدب وصوب.


مايا العنداري الآتية من القارة السمراء الى ربوعها في جبل لبنان، تُخبر في لوحاتها ألف قصّة، وتحمل معها املاً غريباً من بلد الفقر الى بلد الازمات والخيبات.

الهواء وزحمة الالوان في حديقتها، امتزجا بألوان ريشتها التي ارادت ان تُخبر شيئاً. فالشابة التي شقّت طريقها في الفنّ، ابت الا ان تحكي قصة لا تستسلم للقدر، ولا تهاب الفقر والفراق والوحدة، فتجد في لوحاتها شيئاً يحدثك عن نفسك، عن لحظات ضعفك وقوتك في آن.

تبتسم مايا... ثم تُكمل كلامها اللبق امام زوارها، "استخدم في لوحاتي الوان الطبيعة، وابحث كل يوم عن افكار جديدة، اتحدث عن الانسان في كل مكان، وعن مشاعر وعبر نمرّ بها كل يوم".

قلبٌ احمر يجلس في زاوية بيضاء، وخيالات رمادية تميل الى السواد... اشجار من القطن، شاء الخريف ان ينتزع منها وريقات صغيرة، ووجه فهد ونمر في عيونهما قوة ظاهرة وفي الثنايا طيبة لا محدودة... فتاة تجلس على شرفتها، وفي خلفية الصورة، مشهد مدهش لنهر حزين يتأمل ويتألّم...

مجموعة من الاشخاص، ارهقهم التعب، يقفون كالرماح عند المغيب، ووجوههم المموهة تًشعرك بالتعب، وبنهاراتهم الطويلة الذين يقضونها في العمل الشاق من اجل كسرة خبز.

شعور بالغربة الموحشة تكتشفه شيئاً فشيئاً بين لوحة واخرى، هكذا ارادت مايا ان تُخبرنا في لوحاتها الهادئة والصاخبة في آن.

لا تُخفي مايا هذه المشاعر، فقصتها الشخصية اشبه برحلة طويلة في دروب مختلفة... تُصرّ على تطوير موهبتها كل يوم من خلال تعلّم مزيد من التقنيات في الرسم الحديث، الا ان هويتها مطبوعة في كل لوحة تنتظر دورها في الحديقة لتتحدث عن نفسها.


 
تقول مايا ان افريقيا والحياة الصعبة التي يعيشها الانسان هناك، دفعتها لتناول قضايا انسانية في اعمالها. فصورة الام الافريقية الحامل، والتي تحمل اولادها على يديها وعلى كتفيها، اثّرت بها كثيراً، نظراً للطبيعة الافريقية الصلبة، ولما يعانيه الناس في غينيا وفي كل ارجاء القارة السمراء.

ريشة مايا هذه ساهمت في مساعدة فقراء القارة السمراء، اذ نظّمت قبل اشهر معرضها الاول في كوناكري غينيا، ودعت اليه مجموعة من قادة الفكر والفن والسياسة، وتمكنت من بيع عدد لا بأس به من اللوحات والاعمال، حيث ذهبت عائدات هذا المعرض للفقراء، وللمساهمة في بناء مدرسة للاطفال في تلك المنطقة، كما تبرعت بمبلغ اخر لمرضى اطفال السرطان.


تتحدث السيدة بفرح كبير لا يوصف عن انجازاتها، وتشعر بفخر كبير بأنها تستثمر فنّها وابداعها في مساعدة الناس ورسم البهجة على وجوه الاطفال.

وبين لوحة واخرى، يعلو صوت الالوان اكثر فاكثر. وقضايا اخرى تختصرها السيدة الهادئة بلوحات مختلفة المقاسات والاحجام.


تحذر مايا من تمادي الانسان في استغلال الموارد الطبيعية، وتقول ان "السنوات القليلة المقبلة ستشهد شحّاً غير مسبوق في المياه، وتناقصاً في المساحات الخضراء من العالم، ولهذا قمت برسم مجموعة من اللوحات التي تتحدث عن هذه الكارثة، عسى ان نستيقظ من انانيتنا وان نحافظ على مواردنا قبل فوات الاوان".



وبين كل اللوحات المعبّرة تلك، سيدة من العالم الاخر، احضرتها مايا من خيالها الى لوحة مميزة، لتدعو فيها كل لبناني، وكل انسان على هذه الارض الى احترام الاديان والتنوع والاختلافات بين البشر... ترتدي السيدة صليباً وهلالاً ونجمة، وفي عينيها حبّ وسلام، على امل ان تحلّ روحية التسامح في كل الارجاء.

 
وقبل ايام من عودتها الى غينيا وزوجها غازي، تكشف مايا انها تُحضر لمعرضها الاول في بيروت خلال الاشهر القليلة المقبلة، وانها ستتبرع بنصف عائدات اعمالها للمراكز الخيرية، وللجمعيات التي تعنى بالاطفال، آملةً ان تتعاون معها كل مكونات المجتمع اللبناني من كل الاطياف.

اشتدّ الهواء اكثر، وزخّات مطر تشرين سرقتنا من تاملاتنا العميقة في اللوحات التي تتكلم، ساعدنا مايا في توضيب اعمالها، قبل ان يضع هذا المطر الخريفي لمسته الخاصة على ابداعاتها. ودّعنا مايا وبدورها ودّعتنا برقي كبير... بدات العاصفة في الحديقة، لتستمر عاصفة الالوان والقصص في دفء لوحاتها...

سلمان العنداري ... SA
[جريدة النهار : www.annahar.com 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق