انه الطابع البريدي ... |
هو اكثر من ضربية او أجرة نقل، واكثر من مجرّد قصّاصة صغيرة تُوضع على الطرود والمغلّفات والمراسلات... انه الطابع البريدي الذي تحوّل الى قيمة حقيقية، والى "سفير طائر" يجول العالم اجمع.
الطابع البريدي يحمل في طيّاته اسراراً كثيرة، وتاريخاً يختصر المراحل السياسية والثقافية والحضارية التي يمر بها كلّ بلد. فما هو الطابع البريدي وكيف يصدر، ومن هي الجهة التي تصمّمه، وكيف تحوّل من ورقة رسمية الى "شغف" بحد ذاته؟.
يُعرّف رئيس مصلحة الشؤون المالية في المديرية العامة للبريد في وزارة الاتصالات جوزيف عوّاد الطابع البريدي بأنه "عبارة عن اجرة تخليص ومعالجة خدمة بريدية مقابل بدل مادي يُغطي وضع الرسالة او المادة البريدية ونقلها وايصالها الى المورد بعد توزيعها. اذ تشكّل كل هذه العناصر مجتمعةً رسم تكلفة ومعالجة البريد. وهو نوع من الضرائب غير المباشرة التي تفرضها الدولة على الخدمات التي تقدّمها".
يختلف الطابع البريدي عن الطابع المالي، وبحسب رئيس مصلحة الضرائب غير المباشرة في وزارة المالية غازي رمّال، "هناك فارق كبير بين رسم الطابع المالي والبريدي، الا انهما يصبّان في الاطار نفسه، ويُستفاد منهما كبدل خدمات تقدمها الدولة. فالطابع البريدي هو رسم خدمة البريد للمواطن، وتُحدد قيمته استناداً للاسعار المحددة من قبل الدولة حيث تتولى شركة "ليبان بوست" ادارة هذا القطاع لقاء عمولة تدفعها للدولة بشكل سنوي. اما الطابع المالي فهو وسيلة لاستيفاء رسم على بعض الخدمات التي تقدمها الدولة عبر مؤسساتها الرسمية من جهة، وعلى بعض المستندات والاوراق المالية التي ينظّمها الاشخاص فيما بينهم من جهة اخرى. وتذهب هذه العوائد الى وزارة المالية وخزينة الدولة، بينما تُمثّل وزارة الاتصالات الجهة الوحيدة المُخوّلة اصدار الطوابع البريدية عبر اعتماد آلية معيّنة تُنفّذ وفق الاصول".
نوعان من الطوابع البريدية: العادي والتذكاري. "الاول يصدر بقرار من وزير الاتصالات وبناءاً على اقتراح المديرية العامة للبريد وجهات اخرى، ويتم ذلك من دون الحاجة الى طرحه على طاولة مجلس الوزراء، بينما لا يمكن اصدار الثاني الا بعد طرحه على مجلس الوزراء والتصويت عليه لأنه يتضمّن شيئاً من السياسة. ويمكن للوزير ان يقرر نوع الطابع نظراً للسلطة الاستنسابية التي يتمتّع بها.
عندما يتم وضع الطابع العادي في التداول، يُباع في الوكالات البريدية وفي المكاتب المعتمدة، وخاصة في فروع "ليبان بوست" الممتدة على كافة الاراضي اللبنانية. ويبقى مطروحاً في الاسواق الى ان ينفذ، او الى ان يُسحب لسبب او لآخر، اما لتغيّر التعرفة، او بعد كشف تزوير معين لهذه الاوراق".
وعادة ما تطرح الدولة كلّ فترة اصدارات جديدة من الطوابع التذكارية لتكريم عدد من الشخصيات السياسية والثقافية والفنية، او بمناسبة مرور ذكرى او حدث وطني او دولي هام. وعلى سبيل المثال فقد اصدرت الحكومة اللبنانية في عهد الرئيس اميل اده عام 1937 طابعاً تذكارياً يمثّل البيت اللبناني التقليدي للدلالة على صورة لبنان الثقافية سعياً لنشرها في العالم اجمع. وعام 1944 وبعد سنة من نيل الاستقلال من سلطات الانتداب الفرنسي، اصدرت الحكومة 10 طوابع تذكارية كتب عليها الرئيس بشارة الخوري بخط اليد تاريخ الاستقلال".
وتباعاً، اصدرت الحكومات اللبنانية المتعاقبة مئات الطوابع التذكارية والعادية التي لخّصت ابرز المحطات التي مرّ بها "وطن الارز". من مؤتمر الطب العربي الذي عقد في بيروت اواسط الثلاثينات، مروراً بمؤتمر سان فرنسيسكو الذي انهى الحرب العالمية الثانية، وافتتاح مطار بيروت الدولي، ومؤتمر القمة العربية غداة الاعتداء الثلاثي على مصر عام 1956، ودورة الالعاب الاولمبية التي نظّمت في ميونخ، من دون اغفال عشرات الطوابع التي جسّدت ابرز المعالم التاريخية والحضارية للبلد، وتلك التي استذكرت الفنانين والشعراء وملكات الجمال والفلاسفة.
يلفت عوّاد الى ان "شركة "ليبان بوست" هي الجهة التي تتولى عملية صنع الطابع البريدي بحسب العقود الموقّعة مع وزارة الاتصالات، وتشمل العملية التصميم والتنفيذ بعد عرض الافكار وموضوع الاصدار واهدافه، وعادةً ما يتم تكليف فنّان او رسّام او متخصص لتصميم الطابع لقاء بدل مادي معيّن".
عام 1925 استقدمت سلطات الانتداب الفرنسي فناناً فرنسياً لتصوير وتصميم اكثر من 13 طابعاً بريدياً يُبيّن المعالم التاريخية والطبيعية البارزة في لبنان، ومن بينها بيت الدين وبيروت وبعلبك وصيدا والمختارة وطرابلس.
وفي وقت لاحق تلا الاستقلال، عهدت الحكومة اللبنانية الى الرسّام الروسي بول كورولسف الذي استقر في بيروت مهمة رسم الطوابع وتصميمها، ليعمد بعدها الى تكليف مجموعة من الفنانين اللبنانيين للقيام بهذه المهمة، وكان من بينهم مصطفى فرّوخ الذي يعتبر من اشهر الرسامين التشكيليين العرب في القرن العشرين، واحد روّاد الفن اللبناني الحديث.
عام 2001، اطلقت شركة "ليبان بوست" بالتعاون مع وزارة الاتصالات مسابقة مفتوحة لتصميم طابع بريدي يتناول الذكرى الاولى لتحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي. حينها فازت هبى مكداشي بالمنافسة، وتمّ اعتماد تصميمها في طابع يُخلّد ما قامت به المقاومة والشعب اللبناني على الجبهة الجنوبية.
مكداشي التي تُدرّس اليوم مادة "الغرافيك ديزاين" في الجامعة اللبنانية الاميركية في بيروت تستمر في "صناعة التاريخ" عبر تصميم الطوابع البريدية للدولة اللبنانية منذ اكثر من 10 سنوات. وتخبر مكداشي "النهار" عن اهتمامها الكبير بالطوابع "باعتبارها جواز سفر لبنان الى الخارج، ورسالة حضارية ترفع اسم لبنان ومكانته ودوره وصورته في كل اقاصي الارض".
نفّذت مكداشي منذ العام 2001 حتى اليوم اكثر من 48 طابعاً تناول اكثر من فكرة واكثر من ذكرى. وتجري عملية التنفيذ بحسب بكداشي على عدة مراحل: "فبعد صدور قرار الاصدار وتحديد الموضوع، يُعمد الى مناقشة الشكل الاساسي للطابع عبر عقد جلسات من العصف الذهني بالتعاون مع المعنيين، وبعد تحديد الفكرة والالوان والاخراج تبدأ مرحلة التصميم، على ان يُصار الى اختيار الطابع المناسب واعتماده بعد تقديم عيّنة من الاقتراحات والاعمال".
يُعرف عن هواية جمع الطوابع بأنها "هواية الملوك" نظراً لكلفتها المادية الباهظة في شراء الاوراق القديمة النادرة، اضافةً الى انها تتطلب الكثير من البحث والجهد والوقت.
يشير عوّاد الى ان "عدداً كبيراً جداً من الهواة يقضون عشرات السنوات في جمع الطوابع البريدية النادرة لكل بلد، وعادةً ما يكون سعر هذه الطوابع مرتفعاً جداً نظراً لندرتها ولعدم توافرها بالسوق، اذ يمكن ان يصل سعر الورقة الواحدة الى حدود المليون دولار".
وتعتبر هواية جمع الطوابع مفيدة للغاية. فهي تضيف الى الهاوي (الذي يتحول الى مدمن) المعلومات الجغرافية والتاريخية والسياسية لمختلف بلدان العالم، اضافةً الى انها معرفة بحد ذاتها تُضاف الى سلسلة المعارف التي تجعل الانسان يطّلع عليها. فكلما ازداد الولع في هذه الهواية، كلما زادت المعرفة والثقافة، وكلما زاد التعلّق والتوق لاستكشاف المزيد من المخزون التاريخي البشري الضخم.
على مدى عقود اربعة ادرك نائب رئيس "الاكاديمية العالمية للطوابع" شفيق طالب ان الطوابع البريدية او "الوثائق المنمنمة" السهلة التداول والجماهيرية الاستخدام هي خير نموذج لاظهار الحقائق ولسرد الوقائع، ولعرض وجوه من مجريات الحياة اليومية، وللتذكير بالمناسبات والتواؤيخ المشرق منها والمؤلم، فجعلها على رأس انشغالاته وهواياته الحياتية.
ومع الوقت، تحوّلت "هواية" طالب في تجميع وتوثيق الطوابع الى "شغف واكثر"، فأصدر عام 2001 بالتعاون مع ابتنه هدى كتاب "لبنان في طوابعه" عن دار النهار، حيث تم تصنيف عمله المميز "ككتاب رائد" من قبل ادارة متحف البريد في باريس. ليتحوّل منزله في عاصمة الجنوب صيدا الى ما يُشبه متحفاً مصغّراً يضم مجموعة هائلة من الطوابع البريدية من مختلف دول العالم.
يُطلعنا طالب على طوابع المملكة العربية السعودية حيث التمور وصور الصحارى والجمال والحياة البدوية، اضافةً الى الطوابع الخاصة بعائلة بن سعود وبن عبد العزيز والاسرة الحاكمة. وفي مكتبته مجموعات كاملة تختصر تاريخ اليمن وليبيا ومصر والاردن وسائر الدول العربية، اضافةً الى مجموعات بريدية لعدد من الدول الاوروبية والغربية والشرق آسيوية, فبدا الامر وكأنه بحثاً في التاريخ وعودة مذهلة الى الوراء".
وبدافع "الحشرية" اطّلع "النهار" عن كثب على المجموعة الخاصة بالجماهيرية الليبية التي تعيش اليوم ثورة غاضبة على نظام العقيد معمر القذافي الذي يواجه الثوار. وما اشبه اليوم بالامس، اذ تذكر بعض الطوابع التي تصوّر المقاوم الليبي عمر المختار بمواجهة الاحتلال الايطالي بما يقوم به الشعب الليبي اليوم من رفض لاستمرار الاستبداد الداخلي على حساب كرامتهم ومستقبلهم. واللافت في الامر آلاف الاصدارات التي تُجسّد "عظمة" القذافي وصورته الناصعة بجانب الخيمة التي ينصبها اينما حلّ. وقد نالت ممرضاته وحارساته من الجنس اللطيف الى جانب صور الدبابات والقاذفات حصة الاسد من هذه الاصدارات "الغريبة" تماماً كشخصية "ملك ملوك افريقيا".
يعتبر طالب ان نشر ثقافة الطابع هو امر بالغ في غاية الاهمية بالنسبة له، "لأن المساهمة في تعريف الناس على هذه الهواية تعزز صورة التبادل الحضاري والثقافي بين الشعوب بمختلف انتماءاتها واعرافها وعقلياتها". فالطابع "اصبح دليلاً عالمياً بامتياز ترعاه مؤسسات كبيرة عبر الجمعيات والمنظمات العالمية المختصّة".
وانطلاقاً من هذا الحرص، يًنظّم طالب مجموعة من المعارض المفتوحة لكل الناس والشباب وطلاب المدارس والجامعات "لحثهم اكثر على التعرف على الاحداث التي شغلت العالم في ازمنة مختلفة من خلال الطابع البريدي "، الذي تحوّل "الى كتاب تاريخ مفتوح يحكي ويُخبر عن الماضي".
"النهار" زارت برفقة طالب معرض "ذاكرة لبنان" الذي يقيمه في "دهاليز" خان الافرنح التاريخي على مقربة من منزله الصيداوي. المعرض غني بمضمونه التوثيقي والتاريخي. فتأخذك القصاصات الصغيرة المعلّقة سنوات وسنوات الى الوراء، تتعرف من خلالها على لبنان الحقيقي برجالاته وانجازاته ونكساته وابرز احداثه بعيداً من اي تحوير او التباس.
من الابجدية الفنيقية مروراً بفخر الدين والامام الاوزاعي وجبران خليل جبران وجبال الارز وهياكل بعلبك وقصر بيت الدين، ومن مئوية الجامعة الاميركية، الى تكريم الصليب الاحمر اللبناني ومكسيم شعيا وكمال جنبلاط وبشير الجميل ورينيه معوض ورفيق الحريري وابطال المقاومة... جولة ممتعة في ارجاء "الخان" يستمر فيها طالب بالاشارة الى اهمية ما تم تنفيذه. فيقول بين كلمة واخرى بحماسة شديدة: "هيدا لبنان ... هيدا تاريخ لبنان الحقيقي".
ويضع طالب مجموعته اللبنانية بتصرف الجيل الشاب "الذي يفترض به دخول هذا العالم المميز للتعرف على كبار الادباء والفلاسفة، وعلى المعالم السياسية والسياحية والطبيعية، وعلى موقع لبنان الثقافي من خلال الطابع البريدي الذي يحمل في طيّاته فنّاً راقياً ورسالة مهمة للتبادل الحضاري العالمي".
هذا وكان وزير الاتصالات قد أقرّ نهاية العام المنصرم، وبناءاً على طلب جمعية الميدان اصدار اكثر من مليون وخمسمئة الف طابع بريدي عادي لفخامة رئيس الجمهورية الرئيس سليمان فرنجية من فئة 1000 ليرة لبنانية. كما تم التوقيع على قرار اصدار مجموعة من الطوابع البريدية لعدد من الفنانين والشعراء والممثلين اللبنانيين تكريماً لانجازاتهم، ومن بينهم السيدة فيروز وصباح ووديع الصافي والممثل نبيه ابو الحسن وحسن علاء الدين وفرقة كركلا والشاعر سعيد عقل (...).
ووسط هذه الصورة يشير عوّاد الى ان "الثورة المعلوماتية والتكنلوجية التي تجتاح العالم بشكل غير مسبوق ادت الى تقلّص قطاع البريد وخدماته الى ادنى مستوياته، ليتحول البريد الالكتروني الى خدمة بديلة ورديفة على حساب الرسائل والطرود". ويبدي عواد خشيته من ان تؤدي هذه الثورة الى "الاطاحة بهذا القطاع بشكل نهائي بعد فترة من الزمن".
اما طالب، فشاء ان يكرر دعوته المفتوحة للشباب الى ضرورة الاهتمام بالطابع البريدي، مُطالباً السلطات اللبنانية "بادخال الطوابع البريدية في المناهج التربوية ليعمد الى تدريسها والاطلاع على محطاتها وللاستفادة من مخزونها التاريخي الغني".
سلمان العنداري ... SA تم نشر هذا التحقيق في جريدة النهار اللبنانية
كيف يمكنني ان ابيع طوابع قديمة
ردحذفbob2012lb@hotmail.com
ردحذف