نسيم الحرية في ميدان التحرير يهب كل يوم في مدينة لا تنام ولا يغفلها النعاس او التعب... فالقاهرة التي شهدت اكبر ثورة شعبية في تاريخها قبل حوالي 4 اشهر، تعيش اليوم مخاضاً صعباً في مرحلة ما بعد الثورة، اذ انها تتخبط بكثير من القضايا والملفات والمستجدات التي لحقت بحدث تنحي مبارك، الامر الذي يزيد عليها كاهل المسؤوليات، ويحتم عليها الحفاظ على منجزات هذه الثورة وحمايتها الى حين الوصول الى الدولة التي يحلم بها كل مواطن وشاب وطالب وامرأة مصرية قرروا العيش بحرية وكرامة وامل...
لميدان التحرير وسط القاهرة نكهة خاصة. اذ تحول الى ايقونة للحرية والثورة في كل دار، وبات يُردد على كل لسان في هذه المعمورة، ليصبح رمزاً للامل والغضب والارادة الحرة للشعوب. وليتحول الى مصدر الهام لكل مواطن يسعى للخروج من السجن العربي الكبير.
يوم الجمعة الماضي، كان لي زيارة للميدان، حيث التقيت مجموعة كبيرة من المواطنين والنشطاء الشباب، الذين لعبوا دوراً اساسياً ومحورياً في ثورة 25 يناير. فدار الحديث عن اهمية الثورة واسبابها، وعن تفاصيل الاحداث التي تراكمت وتطورت واسفرت عن سقوط النظام القديم. كما عبّر الشباب عن مخاوفهم من امكانية ضياع هذا الربيع في حال نشبت خلافات او تباينات او انشقاقات بين القوى السياسية والمدنية المُشكلة لهذه الثورة.
الزيارة الى ميدان التحرير باتت توازي زيارة الاهرامات في مصر. فالساحة التي تعد من اكبر ميادين القاهرة والتي تضم معالم عمرانية وثقافية وسياسية وشعبية مهمة وحيوية للغاية، عكست الصورة الحقيقية للشعب المصري الذي استعاد كرامته ووجوده، واستفاق من كبوته وسباته، وقال لا للدكتاتور الذي حاول احباطه وقتله سريرياً لعقود وعقود.
التواصل مع الناس في الميدان سهل للغاية، فالكل يحدثك بطلاقة عن الثورة ومعانيها ورمزيتها، وعن اهميتها وضرورتها وحتميتها في هذه الفترة التاريخية الدقيقة التي يمر بها العالم العربي...
في طريقي الى الميدان، سألنا سائق "تاكسي" عن الثورة واحوالها فقال: "ما قمنا به قبل اشهر عبارة عن فورة شعبية اسقطت القناع عن وجه الفرعون الذي قادنا الى قعر الهاوية بسياسته "البلطجية"، وبحقده الاعمى على اهل بلده وناسه. اذ ان هذا الاحتشاد الضخم في الساحات والازقة والميادين، وهذا الغضب غير المسبوق الذي اجتاح كل بيت وعائلة، دفع حسني مبارك الى التخلي عن الحكم والى الانهيار على وقع صرخات الشعب الذي تعرض للاذلال العنفي والقهري على مدى سنوات طوال".
ووسط "عجقة" الناس والهتافات التي تطالب بمحاسبة الرئيس المخلوع ومحاكمته، تلفت الشابة الجامعية إيمان الى انه "بعد الثورة تماثل العالم باكمله بالتجربة الرائدة التي قمنا بها، حتى ان الرئيس باراك اوباما قال في تصريح وجهه للشعب الاميركي "لا بد من ان نربي ابناءنا ليصبحوا كشباب مصر"، وهذا بحد ذاته مدعاة فخر واعتزاز لكل مواطن مصري اثبت انه قادر على التغيير الحقيقي بارادته وبصوته وبايمانه الحر والعميق، البعيد عن العنف والقتل والانقلابات والاقتتالات والشعارات الزائفة".
اما احمد الذي يعمل كباحث سياسي، فيقول: "لقد استعدنا كرامتنا بعد الثورة، وبات المصري يتحدث مرفوع الرأس في كل مكان في العالم، لان مشهد الحصول على الحرية بعد عقود من الطغيان لم يكن سهلاً على الاطلاق، خاصة وان ملايين الناس دفعت الاثمان الباهظة والتي لا تقدر ولا تعوض في سبيل الوصول الى نهاية المطاف، لفتح صفحة جديدة من التاريخ، يكون عنوانها الاساسي: الحرية... والكرامة لكل مصري".
"كل شارع في مصر كان يعبر عن الثورة، ولم يكن ميدان التحرير وحده الذي يعبر عن ارادة المصريين في التخلص من غدر وظلم وقهر نظام مبارك"، يقول احد النشطاء، "الا ان سحر هذا الميدان وما تعرض له من اعتداءات سافرة من قبل بلطجية النظام، زاد من قيمته السياسية، واعطاه رمزية كبيرة جداً في التاريخ المصري الحديث".
وبالتوازي، يعتبر شاب مصري آخر يعمل في المجال الاعلامي ان "ميدان التحرير لم يكن الموقع الوحيد الذي حقق الثورة واطاح بحسني مبارك، اذ ان مصر في ثورة 25 يناير تحولت بكل شوارعها ومدنها ومحافظاتها الى ميدان واحد للتحرير قرر رفع الصوت عالياً بعد سنوات من الدكتاتورية والقتل والممارسات".
ساحات الميدان الواسعة لا تهدأ، اذ تبدو اشبه بهايد بارك سياسي يشارك فيه الآلاف من كل الفئات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فهناك تنتفي كل الانتماءات لتُردد الشعارات الثورية الوطنية، ليرتفع العلم المصري وحده، في وقت تزداد فيه المخاوف من امكانية "الثورة على الثورة" وتضييع كل المكتسبات التي تحققت على مدى الشهور الماضية.
وعلى بعد امتار قليلة من الميدان، اجتمعنا في مركز "الحضارة للدارسات السياسية"، والتقينا عدداً من "المناضلين" الذين حرصوا على استمرار "ثورة 25 يناير" وحمايتها. اذ يرى هؤلاء الشباب ان "الشعب قام بالثورة والشعب سيحميها مهما كلفت التضحيات، ومهما كانت الاثمان باهظة"، مشددين على "مسؤولية كل مصري في حماية المنجزات التي تحققت بفعل نضاله وامله ومن خلال قوته وصبره وعدم استسلامه لليأس والاحباط، وللحالة الاقتصادية والامنية الصعبة التي تعيشها مصر في هذه الفترة".
انطباعات كثيرة يتركها ميدان التحرير في قلب كل من يرتاده. وهو شعور يتراوح بين الامل والغضب، والفخر والاعتزاز، وبين الشعور بالمسؤولية والاحساس بقيمة المنجزات واهميتها... انه قلب الثورات وقلب العالم العربي النابض... انها ببساطة مصر التي عادت الى موقعها الحقيقي...
سلمان العنداري - القاهرة ... SA
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق