الخميس، 7 أبريل 2011

صنوبر المتن الأعلى في لبنان "ذهب أبيض".. لولا الحرائق والباطون المسلح

صنوبر لبنان ... مساحة الامل المتبقية وسط الحالة السياسية والطائفية المذرية

إذا كان الأرز يُشكل رمزاً وطنياً وسياديا ووجدانيا لكل اللبنانيين، فإن شجر الصنوبر يُعتبر الرمز الذي لا يقل أهمية عن الأول بالنسبة لغالبية أبناء منطقة المتن الأعلى في جبل لبنان، تلك المنطقة الخضراء التي تنبض بالحياة والمحبة والعيش المشترك، والتي تتمتع بطابع خاص ومميّز، ألا وهو كثرة أشجار الصنوبر التي تُغطيها بشكل كثيف، وتبلغ مساحتها نحو 4139 هكتارا من قضاء بعبدا، وتشكل ثروة تمتد من وادي لامارتين الشهير الى السفوح والتلال الأخرى لتلك المنطقة، لكن التمدد العمراني والباطون المسلّح يهدد هذه الثروة.

وسكان المتن الأعلى شديدو التعلّق بهذه الثروة الحرجية، ففي فترة السبعينات من القرن الماضي، كانت مهرجانات الصنوبر السنوية تعمّ مختلف القرى والبلدات، واليوم فإن بلدة رأس المتن ما زالت محافظة على هذا التقليد من خلال استمرارها في تنظيم مهرجان الصنوبر الذي تستضيفه هذه "القرية الصنوبرية" في صيف كل عام، وهذا ما تؤكده مسؤولة جمعية سيدات رأس المتن، منى غزال، التي اعتبرت "إن إقامة تلك الفعاليات ليس إلا تكريم وتأكيد على أهمية هذه الأشجار ونظرة المجتمع إليها"، وحتى الرسامون والموسيقيون والشعراء يستلهمون إبداعاتهم وأفكارهم من تلك الأحراج والغابات. فالشاعر هنري زغيب كتب عنها، والفنانة زينة العنداري الأعور تجد في شجر الصنوبر الوحي الكافي لإطلاق أحاسيسها وأحلامها في لوحاتها، وتقولا لولا "منطقة الصنوبر" لما كان للطبيعة موقعاً خاصاً في لوحاتها، وكذلك الفنان جمال أبو الحسن الرائد في الموسيقى المشهدية في الشرق، والذي أدى في أعماله رسالة حضارية عريقة حملت تُراث هذه المنطقة الى العالم أجمع، رسالة كانت وما زالت مجبولة بعبق أحراج الصنوبر المطلّة من على شرفة منزله في بلدة بتخنيه.

وفي أصل تلك الشجرة في المنطقة، وحسب ماجد زيدان "فإن الأمير فخر الدين هو أول من زرعها وجاء بها من تركيا منذ أكثر من 600 عام، وقد شجّع على زراعتها من أجل الاستفادة منها والاستثمار فيها".

ولشجرة الصنوبر أهمية كبرى من الناحية البيئية، فبالإضافة الى كونها ملجأ للحياة البرية، فهي تعمل على الحد من انجراف التربة، والانزلاقات الأرضية، والانهيارات الصخرية، كما تُساعد على زيادة المياه الجوفية وعلى تلطيف المناخ، والحد من التلوث، فضلاً عن توفير الأوكسجين.

ومن الناحية الصحية، ينصح الدكتور ماهر الرامي ذوي أمراض الربو والذين يُعانون مشاكل في التنفّس، بالعيش بين أشجار وأحراج الصنوبر باعتبارها تُنقّي الهواء وتوفّر الجو الصحي الملائم لهم.

وبالإضافة الى ذلك، فلغابات الصنوبر أهمية كبرى من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، فهي تُعتبر المصدر الوحيد لآلاف العائلات في تلك المنطقة في معيشتهم، حيث تلعب دوراً بارزاً في جذب السياح، الذين يقصدون المنطقة سنوياً، وبالتالي فإنهم يؤمنون مدخولا إضافياً للسكان، كما تُعتبر مصدر رزق للعديد من السكان المحليين لما تنتجه من مواد يتم بيعها، ومن خلال فرص العمل التي توفّرها. فالصنوبر الأبيض يبلغ سعر الكيلو الواحد منه نحو 33 دولاراً أميركيا، ويذكر وليد أبو الحسن أن الناس تطلق على ثمر الصنوبر اسم "الذهب الأبيض"، وذلك لارتفاع ثمنه ولمردوده الكبير عليهم، ولندرته في السوق. وبالإضافة الى ذلك يتم الاستفادة من الحطب التي تنتجه من خلال التشحيل، والأكواز الفارغة، والقراعة، والحب الأسود المستخرج منه الحب الأبيض.

أما نقيب عمّال ومُزارعي أشجار الصنوبر في لبنان فخري المصري، فيعتبر "ان الصنوبر سلعة أساسية واقتصادية مهمة، فهي ركيزة للاقتصاد المحلي من جهة، والاقتصاد الوطني من جهة أخرى"، ويطالب الدولة والمعنيين "بضرورة الحفاظ عليها وحمايتها من المضاربة الأجنبية الضارية"، وبالتالي "تأمين سوق خارجي لتصريف الانتاج المتزايد"، آملاً بازدهار هذه الزراعة في المستقبل القريب.

وانطلاقاً من كل ذلك، تظهر أهمية هذه الشجرة وخصوصيتها في منطقة المتن الأعلى، ومن هنا تعمل البلديات والجمعيات الأهلية والبيئية على زيادة مساحات الصنوبر وحمايتها، وهذا ما يقوله السيد عماد الحلبي من بلدة فالوغا، الذي يرى "ان أرز فالوغا وصنوبرها هما بذات الأهمية"، ويتحدث عن خطة شاملة ستُعلن قريباً بالتعاون مع البلديات الأخرى لتشجير الصنوبر في مختلف القرى والبلدات.

وبالتوازي، تعمل جمعية الثروة الحرجية والتنمية AFDC بالشراكة مع المجتمع المحلي من أجل الحفاظ على تلك الغابات، عبر وحدات تطوّع تابعة للجمعية في عدد من قرى المتن الأعلى، كما تعمل منذ فترة طويلة على تدريب عناصر على تقنيات مكافحة حرائق الغابات والوقاية منها. وبالإضافة الى ذلك تقوم الجمعية بحملات توعية للمجتمع المحلي لتبيان أهمية الغابات من النواحي كافة، والعمل مع المدارس العامة والخاصة من خلال برنامج التربية والتوعية البيئية الذي يستهدف 30 مدرسة في المتن الأعلى، كما تعمل الجمعية على إعادة استصلاح مساحات كبيرة من غابات الصنوبر المثمر التي تدهورت، عبر زرع كميات كبيرة منها بلغت 22882 شجرة.

وبهدف الحفاظ على الثروة الحرجية وتأمين مدخول إضافي للسكان، تعمل الجمعية مع البلديات والمجتمع المحلي على تفعيل السياحة البيئية والريفية، وتنفّذ حالياً مشروع "خطة مستدامة لتأهيل غابات جبل لبنان: استعادة النظام البيئي عبر دعم التنمية الريفية المستدامة" المموّل من الصندوق العالمي للطبيعة (WWF)، والتي تستهدف بعض نشاطاته تلك المنطقة، ويتم من خلال المشروع بناء مركز حرجي ريفي في بلدة قرنايل يهدف الى المحافظة على الثروة الحرجية في المنطقة، ومساعدة المجتمع المحلي، خصوصاً المزارعين، على تطوير إنتاجهم من العسل والصنوبر.

ولمعرفة الأهمية الاقتصادية لشجرة الصنوبر، أبرزت دراسة قامت بها جمعية الثروة الحرجية والتنمية )AFDC(، أن الخسارة التي قد تظهر من خلال خسارة هكتار من أشجار الصنوبر تقدّر بنحو 216000 دولار أميركي في 25 سنة، كون شجرة الصنوبر تحتاج الى 25 سنة كي تبدأ بإنتاج الصنوبر الأبيض من جديد، لذلك تقدّر الأموال التي يتم إنتاجها من غابات الصنوبر المثمر سنوياً في قضاء بعبدا بنحو 35 مليوناً و700 ألف دولار أميركي.

وبحسب الجمعية، "فإن غابات الصنوبر في المتن الأعلى كغيرها من غابات لبنان، تعاني مشاكل جمّة، أبرزها الحرائق التي تقضي سنوياً على مساحات ضخمة من تلك الغابات، كما تبرز في المنطقة مشكلة الامتداد العمراني من خلال المشاريع السكنية الضخمة التي يتم بناؤها على حساب غابات الصنوبر".

ويشكل قطع الأشجار بشكل غير منظّم مشكلة تتفاقم في تلك المنطقة، اذ يطالب الناشطون البيئيون المعنيين بملاحقة ومعاقبة من سمّاهم "عصابات الحطب" لأنها تقضي على مساحات واسعة من تلك الأشجار والأحراج.

أما المشكلة النائمة، فتتجسّد بالأمراض التي قد تتعرّض لها شجرة الصنوبر. وبحسب النقيب المصري، فإن ما يُعرف بحشرة الصندل، وهي حشرة ضارة جداً، تأتي على الصنوبر البرّي أو ما يُعرف بـ"الصنوبر الذكر" وتؤدي الى يباسه بعد اختراقها لبّ الأشجار، وهناك إمكانية لانتقال هذه الحشرة الى الأشجار المثمرة ما يؤدي الى النتائج الكارثية نفسها. وبعد الكشف عنها في مختبرات وزارة الزراعة تبيّن أنها شديدة الضرر على أحراج الصنوبر وأنها تتزايد يوماً بعد يوم.

وترى مسؤولة مهرجان الصنوبر منى غزال "ان هناك إمكانية للسيطرة عليها"، وفي هذا الإطار، يطالب المصري وزارة الزراعة بمكافحة هذه الحشرة، خصوصاً في أحراج صليما ورأس المتن، وبالفعل فقد قامت الدولة برشّ المبيدات من الجو، ولكن تلك الأدوية أثّرت سلباً في النحل وموسم العسل، ولهذا يناشد الوزارة ضرورة استعمال أدوية متوازنة لا تؤذي النحل والمكوّنات الطبيعية الأخرى، معتبراً أن هذا "ليس بكاف"، لأن الخطر أصبح كبيراً، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه فالكارثة آتية لا محال.

وفي مجال آخر يطالب المصري بإعادة إحياء "النواطير" في القرى، حيث تتقاسم البلدية وملاّكو الأراضي أجرة هؤلاء النواطير الذين يراقبون الغابات ويحرسونها ويحافظون على سلامة الأشجار.

قصص وقضايا الصنوبر في المتن الأعلى لا تنتهي، لأنها تبقى "الشغل الشاغل" لعدد كبير من الأهالي والمواطنين هناك، فهذه الشجرة العريقة يعتاش منها الآلاف، وتزيّن بألوانها نهارات المتن ولياليه، ليختلط بذلك اسمها باسم تلك المنطقة، ليصبح صنوبر المتن مواز لمتن الصنوبر، الذي يجهد للحفاظ على هذه الثروة الحرجية الغنية بكل الوسائل، لأن إمكانية تعرّضها للمخاطر المتزايدة سوف تؤدي الى انتكاسات بيئية واقتصادية واجتماعية للجميع، ومن هنا يرى الكثيرون ضرورة أن تدخل سياسة الحفاظ على الصنوبر في صلب ثقافة وتربية كل طفل وشيخ وشاب وامرأة من قرى وبلدات المتن الأعلى، لتُشكل بذلك مدخلاً للحفاظ على البيئة واحترامها وما في ذلك من ضمانة لمستقبل الأجيال القادمة.


سلمان العنداري ...SA

هناك 3 تعليقات:

  1. طوبى لمن له مرقد عنزة في لبنان

    ردحذف
  2. قصص وقضايا الصنوبر في المتن الأعلى لا تنتهي، لأنها تبقى "الشغل الشاغل" لعدد كبير من الأهالي والمواطنين هناك، فهذه الشجرة العريقة يعتاش منها الآلاف، وتزيّن بألوانها نهارات المتن ولياليه، ليختلط بذلك اسمها باسم تلك المنطقة، ليصبح صنوبر المتن مواز لمتن الصنوبر، الذي يجهد للحفاظ على هذه الثروة الحرجية الغنية بكل الوسائل

    ردحذف
  3. مادام لُبنان حياً, لن يموت الأرز, لن يموت الصنوبر.

    ردحذف