يستمر الارهاب والقتل في العراق... اذ تنتقل البلاد من مأساة الى مأساة ... نحو الخلاص |
مسكينة تلك المظلومة التي لم تزرها الضحكة يوماً، وكم تحمل من اتعاب زمن لم ينصفها يوماً.
"معاناة"، اسم طفلة سمراء اللون ذاقت من هذه الحياة طعم الحروب الدامية، ولم تسمع سوى اصوات المدافع والبواريد والقذائف الجارحة طوال سنوات وسنوات.
ولم تر تلك الطفلة سوى شعباً يتقاتل وبتذابح ويتصادم، ويُقتل كل يوم من دون هدف او جدوى. ولم تمش على الورد والعشب الاخضر. لا بل مشت بين جثث مزقتها حرقة الاسى واكلتها نار الهشيم...
ومن على ضفاف نهر الفرات، كبرت "معاناة" وشهدت على مأساة وطن اشبه بالكابوس. ليتحول لون النهر الازرق مع مرور الايام الى اسود مرير. الى بقايا هويّات وانتماءات تآكلت بفعل تربّص الدكتاتور وتعنت المستبد، وبفعل حمامات الدم والارهاب التي سببتها الحروب والمغامرات العبثية التي دُفع ثمنها غالياً جداً.
كما ولم تلعب تلك الطفلة بألعاب المحبة والازهار. فاهلها اشتروا لها حبلاً تكبّل فيه افكارها لتضع حداً لاحلامها، لان تقاليد مجتمعها المقفل لا تسمح لا بالاحلام ولا بالامال، ولان كل حالم بغد ووطن افضل مصيره الموت او الاعدام.
معاناة ولدت لتدفع فاتورة الماضي المخيف البعيد، حيث كان القتل على الهوية احد اهم عناوينه. حينها، كان الموت يدق الابواب وينتهك الاعراض دون حسيب او رقيب.
هناك، كان يُقتل كل من يتفوّه بكلمة. وكانت تعلّق المشانق بحق كل "مُعارض". فمن ليس نسخة طبق الاصل عن النظام هو خائن وعميل وحقير ومجنون وجب قتله حياً فقط لانه مختلف.
هذه هي التربية التي خضعت لها "معاناة" وامثالها. ففي مدرستها الخاصة حيث تدرس التاريخ الخاص، ينتقي استاذها ما يحلو له من هذا التاريخ.
وفي الجغرافيا الخاصة، تشرح لها استاذتها مطولاً عن المربع الامني الذي ممنوع عليها اجتيازه، هذا فضلاً عن مواد ومواد اخرى تعلمها كيف تحكم على الاخر قبل ان تراه.
مضت الايام والسنون وكبرت معاناة ونضجت، فتحولت الى شابة جميلة وانيقة يختبىء الخوف في عيونها التي لم تعرف الفرح والحياة او السعادة.
كبرت تلك المحاربة ولم تعرف بعد سبب وجودها في هذا المربع الامني الذي قالوا انها تنتمي اليه.
ومع مرور الوقت، تكاثرت الاسئلة والاسرار والتساؤلات التي لا تعرف الاجوبة. اذ اكتشفت تلك الشابة انها اصبحت تحلم بوطن حرّ، وطن اخضر تتراقص حوله الكلمات المغلفة بالجمال والوحدة والتنوع.
حلمت معاناة بمئات ومئات الاطفال يلعبون ويلهون في كل دار، حيث المساحات الواسعة والسماء الزرقاء والحريات.
وطن السلام والامان والاخوة والامل والحريات. وطن لا يحكمه ديكتاتور، ولا يسكنه ظالم، ولا يرهبه مستبد.
استفاقت معاناة من حلمها مغتبطة الشعور، لانها رأت لاول مرة صور عن عالم كانت نتمنى ان تعيشه يوماً، فادركت منذ تلك اللحظة ان فكرة الوطن الواحد ممكنة، لا كما يشاع خلف الازقة التي تعيش فيها.
الا انه يتحتم عليها ان لا تخبر احداً عن هذا الحلم. فالاحلام في مملكة الاستبداد ممنوعة، والا فالنار والعذاب سيكونان بانتظارها.
عندما اكتشفت معاناة ان المحيط الضيق الذي تعيش فيه ليس العالم الحقيقي، اتخذت قراراها بالفرار من المربع الامني وتجاوز كل تلك المتاريس والاحقاد والاوهام، فهرعت هاربة بحريتها الى مكان بعيد.
كان كل شيء مختلف هناك، تماماً كما رأت في الحلم: لا حرب بل سلام، ولا موت وجثث بل حياة وشعب، ولا قمع وظلم واتعاب ومتاعب وخوف وارتهان، فشرعت في المنفى ببناء الوطن الحقيقي بانتظار جلاء الصورة وسقوط البؤس ومفرداته هناك...
مرت الايام ومعاناة منهمكة ببناء دولة الجميع حيث تسود العدالة والحرية والاستقرار والرخاء. الا ان دورية الظلام التابعة للمربع الامني كانت تفتش عنها وتلاحقها، لانها تجرأت على الهرب والتغيير وتجاوزت بالتالي كل الخطوط الحمر.
وفي ليل اسود، ألقي القبض على معاناة، وكبّلت بالحديد. فعادت بها دوريات الظلام الى المربع الامني، حيث اليأس والبؤس والانهزام.
رميت معاناة في ساحة الدمار حيث اجتمع كل اهالي الازقة والاحياء ورجموها بالنار وحجر التخوين... هناك علا صوت الدكتاتور الذي حكم عليها بالموت لانها تعدت على الموروث، وتجرأت على احداث التغيير، وتحدي العقلية الامنية السائدة.
هكذا كُبلت معاناة بسلاسل المعاناة وقتلت لانها ارادت ان تكون مواطنة صالحة في دولة واحدة لا تعرف سوى السلام. قتلت بسلاسل المعاناة لانها عانقت حرية ورايات النصر.
بعد سنوات، سقط النظام، تداعى الخوف، واختفى الدكتاتور. الا ان شبح الارهاب لم يرحم الشعب ، ولم يتركه بسلام.
بقي العراق حزين، وبقي نهر الفرات اسود اللون، وانتقلت البلاد من مملكة خوف الى اخرى، ومن اكذوبة الى اخرى.
استُبدل الحاكم المستبد بجيش طامع، واستبدل الخوف بارهاب متنقل يقتل الابرياء، وشكلت الفتن الطائفية والمذهبية وقوداً جديداً لاستمرار التعاسة والعذابات.
المعاناة استمرت بعد مقتل معاناة... ويستمر العراق ينتظر الخلاص حتى اشعار آخر.
سلمان العنداري ... SA
عام 2008 وفي اثناء مشاركتي بمؤتمر دولي في دبي تطرّق الى اهتمامات الشباب العربي، التقيت شابة عراقية تداولت معها الاحوال الامنية المتردية في بلادها. ومذاك الحين بقت هذه الصورة في ذاكرتي. وهذه المقالة انشرها اليوم للمرة الاولى بعد 3 سنوات من كتابتها لتبيان حجم المعاناة في العراق الذي ينتظر الخلاص بعد سنوات من الظلم والارهاب والغدر والبطش. على امل الوصول الى دولة حقيقية تسودها الحرية ويسكنها الامل والسلام. كل التحية الى الوطن العزيز ...العراق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق