الجمعة، 28 يناير 2011

يوم في عكار المحرومة...



على بعد اكثر من 94 كلم من العاصمة بيروت، وفي محافظة "عكّار المحرومة"، تقع بلدة "حلبا البعيدة" التي تعتبر مركزاً تجارياً مهماً لقرى عكار العتيقة وجوارها، اذ تنشط في شوارعها الاساسية (المليئة بالجور) حركة مرور مقبولة ذهاباً واياباً، وتصدح على ارصفتها المتكسّرة (او بالاحرى شبه الارصفة) اصوات الناس والتجّار والاولاد... بإختصار، الكلّ في تلك المنطقة يبدو انه ينتظر ويترقّب ويتأمل.

فور وصولنا، تستقبلنا التراحيب من كلّ حدب وصوب، "اهلا وسهلا فيكن بعكار...حمدالله عل سلامة... انشالله ما صار معكن شي من بيروت لهون". تسألهم عن احوالهم، يشكرون ربهم ويحمدوه، "مستورة وماشي الحال". الا ان الواقع ليس كما يبدو، ففي وجوههم تختبىء مرارة قديمة، وألم مبرح، وحزن دفين يتجدد وينمو كخلايا السرطان...انه الفقر والحرمان...انها عكّار الحقيقية.

وصلنا الى "مركز جمعية الرابطة النسائية الخيرية" القريب من ساحة البلدة لتغطية فعاليات ورشة عمل تنظمها "مجلة كزا مزا" الشبابية، فكان بانتظارنا نحو اكثر من 30 شاب وشابة (وقد غلب الطابع الانثوي على اللقاء). حيث تم التداول لأكثر من 3 ساعات بكثير من المواضيع والمسائل "العكّارية"، والمشاكل التي يعاني منها الشباب في تلك المنطقة".

نقص الخدمات يولّد الحرمان والانكفاء ايضاً

تقول دعاء السيد الناشطة في الرابطة الخيرية التي تأسست عام 1945، والمتابعة لحالات الشبان والشابات الذين يرتادون الجمعية، ان "المشكلة الاساسية التي تعاني منها منطقة عكار تكمن في نقص الخدمات والبنى التحتية مما ادى الى حرمان كبير لا بل فاحش اصاب المواطنين، وبخاصةً فئة الشباب".

تسعى الجمعية بامكاناتها المتواضعة وبالتمويل البسيط الذي تحصل عليه بين الآونة والاخرى من قبل بعض المنظمات الدولية المانحة، من خلال تنظيم ورش العمل والدورات التدريبية والاجتماعية، الى دفع هؤلاء الشباب الى المبادرة، والى الخروج من دوامة اليأس والخمول، لمساعدتهم على التعبير عن انفسهم وكسر جدران الضياع، على امل ان ينطلقوا بقوة الى المجتمع الكبير، ويساهموا بالتالي كلّ حسب قدراته وامكاناته بانماء هذه المنطقة وايقاظها من سباتها.

تحوّل البطالة الشباب في هذه المناطق والقرى، من عنصر فاعل ومنتج مستعد للتغيير وتقبّل الآراء الجديدة، والتطوير في المجتمع، الى عنصر منكفىء، منعزل، منطو على نفسه ومستسلم لواقع الامور دون القيام بأي مبادرة من شأنها تحريك الركود لتغيير الامر الواقع المعاش او المفروض.

شباب عكّار...مشاكل وهموم

تخبرنا السيّد عن مشاكل وهموم كلّ من الشباب والشابات الذين التقيناهم، فمنهم من لم تسمح لهم حالتهم المادية بارتياد الجامعة في طرابلس نظراً لبعد المسافة بين حلبا وجوارها والفيحاء البعيدة والمتعبة "بمشوراها". كما تشير السيد ان عدداً كبيراً جداً من الفتيات منعن من ارتياد الثانويات او الجامعات نظراً للعقلية القديمة السائدة في بعض القرى الريفية، حيث ينظر الى الفتاة بطريقة سلبية لا تسمح لها بالانطلاق في حياتها بحرية، وتحقيق ذاتها في المجتمع، "ولهذا نحن نعمل اليوم من خلال الجمعية على تدريبهم ومساعدتهم على الانطلاق من جديد على امل ان يفهم بعض الاهل انه من حقّ كل فتاة وكل شاب ان يكون له مستقبل مشرق، وانه لا بد من تغيير بعض المفاهيم كي يفسح لهم بالمجال للتعبير عن ذواتهم دون اي خوف".

هل نحن جزء من لبنان ام لا؟

أصرّ الشاب داوود الحاج على الكلام، "فالإنماء في لبنان محصور في مناطق مركّزة للأسف، على رغم ان الدستور والمنطق العام للامور يقول بضرورة الانماء المتوازن بين كل المناطق، الا ان العكس هو السائد في لبنان اليوم، فنجده مثلاً في بيروت وضواحيها بشكل رئيسي، وطرابلس وصيدا بشكل اقل، لتنعدم مظاهر الانماء والتنمية والاعمار في المحافظات والمناطق البعيدة، كعكار التي تعاني منذ عشرات السنين من النقص الفاضح للخدمات والمشاريع، ومن الانقطاع المستمر للكهرباء".

يضيف داوود "يعاني شباب عكار من مشكلة في التواصل مع "العالم الخارجي"، وابسط الامور تكمن في عدم وجود اي مركز ترفيهي او ملاعب لكرة القدم، او مؤسسات شبابية، يضاف اليها قلّة قليلة من مراكز الانترنت في المنطقة". ليسأل "هل نحن جزء من لبنان ام لا؟، فلماذا اذن كل هذا الاهمال؟".
الاعلام غائب عن همومنا

يشكو الشباب من تعاطي وسائل الاعلام مع منطقة عكار في تغطية مشاكلهم وواقعهم الصعب. "فالالتفاتة الى هذه المنطقة تكاد تكون معدومة، فلا اهتمام رسمي اومدني اواعلامي في تسليط الضوء على الواقع المعاش في احدى اكبر المحافظات في لبنان، واحدى افقر المناطق في البلاد".

تخبرنا جيهان الجوهري (تلميذة جامعية) انها حاولت الاتصال لعشرات المرات باكثر من وسيلة اعلامية لتسليط الضوء على المنطقة، " ولكن كان الخط يقفل بوجهي كلّ مرة". كما وتتهم جيهان الاعلام اللبناني بأنه موجّه ولا يمكن اختراقه باعتبار ان كل وسيلة اعلامية سواء اكانت مرئية او مسموعة او مكتوبة تتبع لهذا السياسي او ذاك، او لهذه الطائفة او تلك، "وبالتالي فإن اي محاولة لرفع الصوت ولقول الحقيقة كما هي تصبح امراً صعباً علينا كأهالي عموماً وكشباب على وجه الخصوص".

حضور الانترنت خجول في عكار

الاعلام اليوم يتحمّل مسؤولية كبيرة في التقصير بحق "عكار المحرومة"، فلا يلقى الضوء عليها "الا عند الحاجة"، وتحقيقاً لمكاسب سياسية من هنا وهناك، الا ان بعض هؤلاء الشباب وجدوا في "الاعلام البديل" سبيلاً للخروج من النفق، ولرفع الصوت عالياً، ليغدو موقع الفايسبوك الاجتماعي على سبيل المثال، متنفساً اساسياً لهم للتعبير عن حاجاتهم ومعاناتهم اليومية، وهواجسهم النفسية والشخصية، فكسروا التقاليد والعادات، وتحدّوا بعد المسافات، ليقولوا عبر الشبكة الالكترونية كل ما لا يمكن ان يقال".

تجدر الاشارة ان 16% من المشاركين الثلاثين الذين التقيناهم يستخدمون الانترنت، بينما ابدى الباقون عدم معرفتهم بكيفية استعماله. ولدى سؤالنا عن السبب اجابت السيّد بأن "الحالة النفسية التي يصل اليها الشباب من جرّاء البعد الجغرافي، والاهمال الرسمي والمدني عن قصد ام من دون قصد، افضت الى حال من الخمول وعدم الحماسة لاكتشاف اي جديد، فنجد اغلبية الفئات الشابة غير مهتمة وغير آبهة بالتغيرات الحاصلة، يضاف الى ذلك عدم وجود مقاهي ومراكز تستقبل روّاد الانترنت "المنتشر بنسبة ضئيلة قياساً بالمناطق الاخرى"، كما ان معظمهم لا يعرف التقنيات التي يجب اتباعها لاستخدام الكومبيوتر، ومن هنا نحن نعمل بالامكانات المتاحة لتدريبهم على كيفية استعماله على امل ان نحقق خرقاً في هذا الخصوص، مع تمنياتنا ان يسمع المسؤولون والمعنيون هذه الصرخة، لأنه لا يجوز ان تكون عكار الأبية بعيدة عن "الحضارة" بشكل او بآخر".


محاولات لردم الهوة

يذكر ان الجمعية تعمل منذ اكثر من 55 عاماً على مد يد المساعدة للايتام والفقراء في لبنان لبناء غد افضل، حيث يتم تنظيم دورات شبه مجانية لتعليم الفتيات فن الخياطة، الكوافير والمكياج ودورات محو الامية ولغات اجنبية، اضافةً الى التوعية الصحية والبيئية، وتعليم الشباب على مهن يدوية، ذلك لتمكينهم ومساعدتهم على تحمّل المسؤولية، خاصةً وان معظمهم ينتمون الى الطبقة الفقيرة والتي لم تتح لها الفرصة الكاملة بناءً على ظروف معينة اعاقت استكمال تحصيلهم العلمي".

تقدم الجمعية مساعدات في التسجيل المدرسي للايتام والفقراء وتؤمن لهم الكتب والقرطاسية. ولتخفيف التسرب المدرسي، نفّذت الجمعية مشروع الدعم المدرسي بالاستناد على دليل الدمج لتطوير قدرات الاداريين والمعلمين والمعلمات وتنمية المشاركة في المدارس. يضاف الى ذلك تطوير قدرات المرأة الريفية والمطالبة بحقوقها وحقوق الطفل".

"كزا مزا" على الطريقة "العكّارية"

وسط هذه الصورة الضبابية والكئيبة، تمتلىء القاعة التي تنقطع فيها الكهرباء تارةً لتعود تارةً اخرى بعشرات الشكاوى التي اراد الشباب ايصالها الى مراكز القرار، من تغاضي بعض النافذين والمسؤولين من متابعة قضايا عكار وأهلها، الى العقلية القديمة السائدة، والكبت الذي يجتاح كل البيوت والاحياء والازقة، مروراً بالبطالة، وعدم القدرة على اثبات الذات وتحقيق الاحلام. يضاف اليها آلاف الاسئلة والاجوبة المبهمة، وعشرات الاحلام الهائمة والتي لا تعرف آمان او استقرار.

المجلة الشبابية التي تزور المناطق اللبنانية كافةً للاطلاع على مشاكل الشباب ودور الاعلام البديل في تنمية قدراتهم وتعزيز ثقتهم بذواتهم، قدّمت نفسها في ورشة العمل على انها جزء من "الاعلام البديل" والحرّ، لتكون منبراً سهلاً لكل شباب لبنان، وخاصةً لتلك المجموعة "المنسية" والمحرومة، لتفسح بالمجال امامهم للتعبير عن آرائهم وتطلعاتهم وهواجسهم وهمومهم واعتراضاتهم على صفحاتها المستقلّة، غير المرتهنة لأي خط سياسي او زعيم او سلطة. "فكزا مزا" بحسب مسؤولة العلاقات العامة فيها تامي قزحيا "مجلة مستقلة، تعبّر عن الهوية الشبابية بأنواعها "الممنوعة"، وتعصر نقطة تلو الاخرى كل ما هو صاف ومبدع من ثقافة الشباب عند نقطة الغليان".

متى الانماء؟

"تتعدد الاقلام الشابة التي اصرّت ان تعبر بعفوية تامة عن هواجسها وتطلعاتها". وتأمل قزحيا عبر جولات "كزا مزا ستوديو" المساهمة في قيام نهضة شبابية متطورة بعيدة عن "آخر موضة"، و"السير الاعمى" وراء العصبيات المذهبية والطائفية، وبعيداً من الانقياد الطائش للزعيم والحزب والوسائط، في سبيل الوصول الى مكان آخر نحو التغيير".

قبل المغادرة، وفي ختام "الورشة" التي تكلم فيها المشاركون بكل صراحة ووضوح، اطلق الشباب العنان لأنفسهم فجاةً بعدما طلبت منهم قزحيا التعبير كتابةً عن حجم الاعتراض، وعن صورة عكار الحقيقية، علّه يصل الصوت، وتتغير العقليات والافكار المسبقة وتكسر الجدران، ويتم الاجابة على السؤال التالي: متى الإنماء في عكار المحرومة؟.

هناك 3 تعليقات:

  1. Being from the North, we come in contact with many people from Akkar and this is very true. They live in stringent conditions that are humanly unacceptable, let alone for a country like Lebanon. Thank you for shining light on it!

    ردحذف
  2. الجواب : حين يثور الشعب على حكامه الفاسدين

    ردحذف
  3. تمتلىء القاعة التي تنقطع فيها الكهرباء تارةً لتعود تارةً اخرى بعشرات الشكاوى التي اراد الشباب ايصالها الى مراكز القرار، من تغاضي بعض النافذين والمسؤولين من متابعة قضايا عكار وأهلها، الى العقلية القديمة السائدة، والكبت الذي يجتاح كل البيوت والاحياء والازقة، مروراً بالبطالة، وعدم القدرة على اثبات الذات وتحقيق الاحلام. يضاف اليها آلاف الاسئلة والاجوبة المبهمة، وعشرات الاحلام الهائمة والتي لا تعرف آمان او استقرار

    ردحذف