الجمعة، 30 مارس 2012

بين استوديو نظاريان وبيروت... قصص وصور وشغف... واكــثر..


استوديو نظاريان ... تاريخ من تاريخ ... 


بين زحمة السير، وهموم الناس ووجوهها، وبين نبض العاصمة بيروت بحكاياها واسرارها وخباياها، وبالقرب من وزارة الداخلية، وحديقة الصنائع، لم تقفل ابواب "استوديو نظاريان" للتصوير منذ اكثر من 54 عاماً.

لم يكن نوبار نظاريان يهوى الصيدلة كوالده. فشغفه بالتصوير دفعه الى افتتاح "استوديو" للتصوير الفوتوغرافي في شارع سبيرز العريق عام 1958 بإمكانيات متواضعة.

آنذاك كانت بيروت لؤلؤة الشرق دون منازع، تعيش نهضة ثقافية واجتماعية واقتصادية. وتنافس كبريات العواصم العالمية بجمالها وتألّقها وسحرها.

بيروت آنذاك شكّلت مركزاً للحداثة والحرية والانفتاح في منطقة غارقة بإنقلابات عسكرية وبثورات وصراعات ضارية.

وبسرعة قياسية، تحوّل الاستوديو الى مقصد للكبير والصغير، الغني والفقير، من كل الطوائف والمناطق والخلفيات، وانهمك نوبار بتصوير الناس، وانكبّ على "تظهير" وتحميض الصور في "الغرفة السوداء" لساعات وساعات.

خبرة نابور وابداعه واتقانه لعمله حوّل الاستوديو الصغير والمتواضع، الى واحد من اشهر اماكن التصوير الفوتوغرافي في البلاد بأكملها.

استقطب الاستوديو البسيط عدداً كبيراً من السفراء والوزراء والنوّاب، والشخصيات الاجتماعية والفنيّة. وما هي الا سنوات حتى بات نوبار يُعرف بـ"ملك الابيض والاسود" نظراً لنوعية الصور التي يصوّرها، ولجودة الالوان والورق المُستعمل.

مرّت السنون، وكانت بيروت على موعد مع كابوس اسود. انفجرت البلاد وغرقت في حرب اهلية قاتلة، ذهب ضحيتها مئات الالاف. انقسمت العاصمة، وتحوّلت عروس الشرق الى ارض موحشة قاحلة، تعبث بالدخان والنار.

انعكس الجوّ المثقل بالقتل على الحياة اليومية. خوف وغدر وقنص وخطف، وكره وبغض وحقد أعمى بصيرة اللبنانيين الذين أغرقوا انفسهم بويلات مجهولة وبدوامات لا قعر فيها.

ومع الطلاق الجغرافي والنفسي الذي قسّم بيروت الى واحدة شرقية (تسيطر عليها اغلبية مسيحية)، واخرى غربية (تسيطر عليها أغلبية مسلمة بالاضافة الى بعض القوى اليسارية والفلسطينية). وقع الاستوديو بين شطري العاصمة وخطوط تماسها. اذ ان امتاراً عدة كانت تفصله عن "بيروت الثانية" من "بيروت الاولى".

ايام صعبة عاشها نوبار وعائلته في تلك الحقبة. اذ كان ينتقل من فرن الشبّاك الواقعة في الشرقية بسيارته القديمة برفقة زوجته وابنتيه، مرورا بمنطقة السوديكو حيث الجامعة اليسوعية، وصولاً الى مكان عمله في الغربية.

وعام بعد عام، بات التجوّل في بيروت ضرباً من الجنون، واصبح التنقّل بين الاحياء والازقة حلماً مستحيلاً. فالقناّصة في تلك الفترة رصدت كل الشوارع، والميليشيات التابعة للقوى المتقاتلة والمتناحرة سيطرت على مفاصل الحياة بعد موت الدولة ومؤسساتها.

وطوال 17 سنة من الحرب المتواصلة، لم يستطع نوبار ان "يداوم" في الاستوديو الصغير الا بشكل متقطّع، مُستغلاً الهدنات العسكرية والسياسية والامنية التي كانت تُعقد لساعات معدودة بين "امراء الشرقية والغربية".

ولأن نوبار خلوق ومحبوب، وصاحب وجه "بشوش واجتماعي"، ولأنه نأى بنفسه عن الدخول في لعبة الحرب وملوكها، فقد نال ثقة كل الاطراف، ولم تتعرض له "الميليشيات"، ولم تتعدى على مصدر رزقه الوحيد. فبقي الاستوديو، رغم بعض الاضرار التي كانت تصيبه بين كل فترة واخرى.

عام 1990، انتهى القتال، وخفتت اصوات المدافع، وتُركت بيروت صامتة بعد اغتصابها لأعوام واعوام. كان المشهد اكثر بشاعة بعد جلاء المشهد وانجلاء الغبار. دمار وخراب ومآسي وجراح. ضحايا وألم وانكسار لا يوصف.

آنذاك شعر اللبنانيون بالخطأ الذي اقترفوه بحق بلدهم، الا ان الأمل بغد جديد، وبمستقبل افضل، أيقظ بيروت من رمادها وكبوتها وكآبتها، واعاد بعثها من جديد كطائر الفنينق، لتنطلق ورشة اعادة اعمار واصلاح ما "انكسر" في كل مكان.

وبهذا عاد استوديو نظاريان من جديد، واكمل نوبار ما بدأه قبل عقود. اجرى بعض الاصلاحات الطفيفة، ومسح الغبار عن الواجهة الخارجية الزجاجية التي تعودت على الدخان والنار، وعادت الصورة بخجل تعيد رسم معالم بيروت المشوّهة.

في تسعينات القرن الماضي، شهد حقل التصوير الفوتوغرافي تطوراً ملحوظاً، وبدأ العالم يدخل شيئاً فشيئاً عصراً جديداً من التكنلوجيا والسرعة. فارتاى نوبار تغيير آلة التصوير المختصّة بالصور الشمسية، واستبدالها بأخرى تلتقط الصور الفورية، وبجودة عالية وواضحة.

عام 2001، فارق نوبار الحياة. رحل الى دنيا الحقّ، الا ان ذلك لم يمنع زوجته من اكمال المسيرة والحفاظ على ارث زوجها والانجازات الرائعة التي حققها على مدى عقود.

السيدة آنّي نظاريان، حملت المشعل، وتغلّبت على احزانها وعذاباتها، لتعيد فتح الاستوديو بعد اشهر من الاقفال. ولعودتها هذ.. حكاية...

زُرنا السيّدة آنّي في الاستوديو العتيق. وبين الصور الشمسية، وعبق الابيض والاسود، تحدثت السيدة نظاريان، بهدوء لافت، وبشغف يُعبّر عن حبّها وامتنانها للمرحوم زوجها وما قدّمه من فنّ وابداع طوال اعوام.

وبإنصات لا يوصف، يكاد فنجان القهوة ان يبرد، وتكاد الصور ان تتكلّم. فالسيدة اللبقة في تصرّفاتها أبت إلا ان تخبرنا الجزء الثاني من قصّة الاستوديو: "قبل موت زوجي بخمسة اشهر، فقدت اخي الوحيد، وأصبت بصدمة كبيرة، وغرقت في حزن لا يوصف، الا انني قررت ان اتغلّب على احزاني واوجاعي، وان أعيد افتتاح المكان الذي قضيت فيه اهم لحظات حياتي وعائلتي، ومن زعلي وقهري نفضت الغبار مجدداً، وأعدت استوديو نظاريان الى الحياة البيروتية من جديد رغم رحيل مؤسسه".

ابو أحمد، صديق العائلة شاء ان يعطي شهادةً بأصحاب الاستوديو "واصدقاء الدرب" كما أسماهم، فقال: "والله ان السيد نوبار والسيدة آني من اروع الناس وارقى الاصدقاء الذين صادفتهم طوال حياتي، وانا اجزم انه لو كان السيد نظاريان على قيد الحياة لكان طبع بصمة اكبر واكثر تأثيراً في مجال التصوير الفوتوغرافي، وما تقوم به السيدة آني اليوم مهم للغاية واستمرار لإرث زوجها المرحوم".

في المكان رائحة بيروت القدمية والعريقة. والديكور لم يتغير، رغم بعض الاصلاحات الطفيفة التي قام بها نظاريان قبل وفاته. وحدها الذكريات تتحدث، بالابيض والاسود، وبآلات التصوير المعلّقة في الواجهات الزجاجية.

اكثر من 11 عاماً مضت على وفاة نوبار، وتستمر السيدة آنّي بعملها بكل نشاط واندفاع، " فهذا الاستوديو كل حياتي، وكل ذكرياتي، عشت فيه كل مراحل حياتي، وها انا استيقظ كل يوم، واذهب بالشغف عينه لأؤمن لقمة عيشي من عرق جبيني من جهة، ولاحفظ ما قام به نوبار من جهة ثانية".

باختصار، ان قصّة هذا الاستوديو الملهمة، تشبه الى حد كبير قصّة بيروت بحلوها ومرّها، بقصصها الجميلة وبكوابيسها السوداء. بأيامها الناصعة والزهرية، وبلياليها الطويلة. ولا شك ان هذه القصص تبعث على الامل، وتحثّنا على المضي قدماً بحياتنا وعدم الاستسلام للحظات الحزن والتعاسة واليأس. انه استوديو نظاريان... تماماً كبيروت بالابيض والاسود... وبالالوان ايضاً.

سلمان العنداري... SA

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق