لا شك ان من تابع تفاصيل مسلسل "الشحرورة" الذي تناول قصة حياة الفنانة اللبنانية الكبيرة "صباح"خلال شهر رمضان المبارك، أصيب بحزن كبير لما تعرضت له "الشحرورة" من صولات وجولات من الغدر والخيانة والظلم...
فالشحرورة الصبّوحة التي جمعت "محمود ومعروف والياس وحسين"، والتي غنّت لبنان والارز وابو الزلف والحرب والسلم، والتي حولت هذا البلد البائس بحروبه واقتتالاته الى جنة على الارض باغانيها البسيطة بصوت ذهبي اخّاذ، والتي احبّت مصر وشعبها وروحها وناسها وشوارعها، انتهى بها الزمن بعد دورة كاملة في غرفة موحشة، وفي وحدة قاتلة، وفي غربة مريبة لا تليق بمكانتها ورمزيتها...
المشهد الاخير من الشحرورة يكاد يدمي القلب من الناحية الدرامية، فنجمة الجماهير التي لاحقتها الاضواء والشائعات، تجلس وحيدة في الظلمة بحزن شديد، وسط وحدة مقلقة وقاتلة تحيط بها من كل حدب وصوب... فابتسامتها المليئة بالحياة اختفت وغرقت بتجاعيد مسيرة طويلة من العطاء والتضحية والالم...
للاسف هذا هو مصير الكبار في لبنان، معظمهم يرحل مقهوراً او مصفوعاً من دولة لا تحترم مثقفيها ولا تحسب اي حساب لكبارها ونجومها، دولة فاقدة الشخصية تقتات على الفساد والمحسوبيات والاعمال المشبوهة...
فدولتنا يا صباح تحولت الى اطلال، تشيّد القصور لتمارس نكراناً ذاتياً على حجم الفشل الذي وصلت اليه الامور، وتستبعد مثقفيها ونخبها وتطمرهم بالوعود والشعارات الفضفاضة... انها دولة الفشل التي لا تحترم العقول، ولا تقدّر الرموز والعظماء امثالك وامثال العشرات الذين رحلوا واختفوا بعد صراعات مع الالم والوحدة وخيبات الامل...
قد يقول البعض اني ابالغ بمشاعري في هذه التدوينة، الا اني بالفعل اشعر بغضب شديد من تواطؤ هذه الدولة وتقصيرها مع كبار مثقفيها وممثليها وفنانيها الذين يمضون الى دنيا الاخرة من دون اي لفتة او اي تكريم او تقدير...
مسيرة متألقة من النجاحات والاخفاقات |
صباح... عذرا ًمنك لاننا لم نتعرف على وجهك الحقيقي قبل اليوم. نحن الجيل الجديد الذي يعيش تحت وطأة الاحداث... عذرا ًمنك لاننا لم نقدّر مسيرتك الفنية ولم نعطها حقها كما يجب، لانك بالفعل ايقونة للجمال والفن والطرب وعنواناً للحياة والفرح والسعادة والامل والنضال والكفاح...
وللمعلومات، فللشحرورة اكثر من 83 فيلم بين مصري ولبناني، و27 مسرحية لبنانية، ومايزيد عن 3000 أغنية بين مصري ولبناني. وتعتبر ثانى فنانه عربية (بعد أم كلثوم في أواخر الستينات) غنت على مسرح الأولمبيا في باريس مع فرقة روميو لحود الاستعراضية في منتصف سبعينيات القرن العشرين، كما وقفت على مسارح عالمية أخرى كأرناغري في نيويورك ودار الأوبرا في سيدني، وقصر الفنون في بلجيكا وقاعة ألبرت هول بلندن، وكذلك على مسارح لاس فيغاس وغيرها.
سامحت كل من جرحها وخانها وغدرها، ولم تستسلم لمحاولات منعها من الغناء او شطبها من المعادلة... رضيت بدقائق من السعادة، عاشت ملكة على الارض... تعذبت، بكت، ضحّت، اخطأت في بعض الاحيان، ولكنها صمدت حتى اللحظة الاخيرة...
عاشت الحلو والمرّ، دفعت ثمن حياتها الفنية الصاخبة، فخسرت حياتها العائلية. اذ ان حبها للناس تغلغل في عروقها حتى ادمنت على الفرح رغم تعاستها... انها ببساطة الشحرورة...
وصلت الى قمة التألق والنجومية، وواجهت العالم بأكمله بصوتها وعنفوانها واصرارها على قهر النجاح وتسلق قممه، الا ان ابنة الجبل لم تتغير، فصباح العفوية، المتواضعة، والطيبة حافظت على هويتها ولمستها الخاصة، وتمكنت من حفر اسمها بالذهب في ذاكرة كل مواطن لبناني وعربي حول العالم...
تقول الشحرورة في اغنيتها الحزينة الساحرة: "ساعات ساعات احب عمري واعشق الحاجات ... احب كل الناس، واتملي احساس... واحس جوايا بميت نغم... ميت نغم يملو السكات... ساعات ساعات ...ساعات ساعات احس اد ايه وحيدة... واد ايه الكلمة في لساني ماهيش جديدة...واد ايه مانيش سعيدة... وان النجوم النجوم بعيدة ...وتقيلة خطوة الزمن... وتقيلة دقة الساعات .... ساعات ساعات"...
نعم ثقيلة هي دقات الساعات يا صباح، ومزعجة وموحشة هي الوحدة، ومقلق ومبكي الشعور بالغدر والخيانة والهجران... الا ان نجمك سيبقى ساطعاً في كل مكان، وابتسامتك الرائعة لن تغادر اذهاننا بعد اليوم... ومسيرتك الطويلة سنحولها الى اسطورة تماماً كما تحولت انت الى اسطورة غامضة لا وان تموت...
صباح .. انت لست وحيدة، لاننا معك، واغانيك صامدة وخالدة لن يمحيها اي زمن، ولن يلفظها اي تاريخ، ولن ينساها احد... ومسيرتك المفعمة بالتضحية وروحك الطيبة والبسيطة ستظل تغرد في كل مكان بيننا...
الشحرورة... انت ملكة على الارض، كنت وستبقين الاكثر قرباً الى القلب، والاكثر تصالحاً مع الذات، فتحية لك ولفنك الراقي...
ويبقى توجيه تحية حارة الى فريق عمل مسلسل الشحرورة والى الفنانة كارول سماحة التي ابدعت بدورها الصعب... على امل ان يسطع نجم الدراما اللبنانية في سماء عالمنا العربي...
.
سلمان العنداري ... SA