الف وجه ووجه للفقر في لبنان |
لأم محمد ذكريات كثيرة على كورنيش المنارة في العاصمة بيروت... فمنذ العام 1991، وفور انتهاء الحرب الاهلية، وجدت المرأة الثمانينية نفسها بين ركام الاحداث والاغتيالات والانفجارات والاجتياحات التي دامت اكثر من 15 عاماً من الدمار والاقتتالات الداخلية. وبين مفترق طرق الحياة الصعبة والمستقبل الغامض، لم تجد "الحجّة" الطاعنة في السنّ بعد مقتل زوجها، وسفر ابنها الوحيد الى الولايات المتحدة الاميركية بصورة نهائية، سوى التفتيش على طريقة شريفة تكسب فيها لقمة عيشها بكرامة وشرف. فإختارت "مهنة" بيع علب الدخان والسكاكر في العاصمة بيروت، فإشترت "دكاناّ" متنقّلاً، عبارة عن عربة صغيرة، بأربعة دواليب، تجرّها ببطء، ذهاباً واياباً على كورنيش المنارة المزدحم صيفاً شتاءاً.
وجه تلك السيدة العجوز مليء بالتجاعيد والتفاصيل التي لا تنته، حيث تقودك تلك "القصص والخطوط" الى هموم الحياة الصعبة التي قضتها تلك الأمّ طوال عقود. وتجد بين خطّ وآخر ضياع وطياف بين الأمل والتعاسة، وبين العيش في الماضي، والانتظار على حافة الحاضر.
ام محمد التي تجوب "الكورنيش" منذ 19 عاماً، تقول انها اختارت بيع علب الدخان هرباً من العوز والفقر والحرمان الذي تعانيه، "فالدولة في لبنان لم تحسب الحساب يوماً للفقراء الذين يولدون ويموتون كالبؤساء، فلا يجدون من يقف الى جانبهم ويدعم قضاياهم واحلامهم وطموحاتهم الصغيرة التي لا تبني القصور ولا تتطلب الكثير من الاموال".
تكاد ام محمد "تنفجر" من شدة الحزن الذي تعانيه. فالدموع التي تملأ عيونها الغارقة في اللاشيء تسأل: "هل المطلوب ان اجوب الطرقات والشوارع تسوّلاً، وهل المطلوب ان افترش الزوايا وأمد يدي طلباً للمال او الطعام؟". تصمت لبرهة، وتسترق النظر الى البحر الهادىء، وتجيب نفسها قائلة: "كلا...لم ولن أفعلها، ولهذا فضّلت بيع الدخان والسكاكر لأعيش بكرامة كما علمني والدي عندما كنت في الصغر، ولهذا تجدني اليوم ملتصقة بأمواج البحر برفقة صديقتي العربة التي لم تفارقني منذ سنوات طويلة".
الكلام المؤثر للأرملة الوحيدة يشدّك اكثر نحو الناس ونبضها وهمومها ومشاكلها. فالفقر في لبنان يزداد اليوم، ويكاد يبلغ مستويات صارخة لا مثيل لها منذ عقود. فالبطالة تزداد، و"بيوت التنك والرطوبة" في ارتفاع مستمر، واولاد الشوارع يملأون المدن والضواحي، اما الدولة الضائعة في استحقاقاتها، والغارقة في الملفات السياسية، والصراعات الآنية، إما تغضّ النظر، واما غير قادرة على حلّ هذه المعضلة التي تتفشّى كالسرطان عند اطراف كل مدينة، وفي اعالي كل قرية بعيدة، وعند كل زاوية من هذا الشارع او ذاك. فتجد المتسوّلين والبؤساء والفقراء والمعوزين يشكّلون احزمة مهمّشة تلف حياة السهر والترف والبذخ التي يتغنّى بها اكثرية الشعب اللبناني "المتوحّش الثراء".
اما بعد، لا بد من توجيه خالص التحية والتقدير لتلك المرأة التي شاءت ان ترمي نفسها في متاعب الحياة، ككتلة نار يائسة وثائرة على واقعها في الوقت نفسه، تعمل في الليل والنهار لتسدّ جوعها، وتروي عطشها بعرق جبينها وكرامتها، في وقت تناضل فيه مجموعة نسائية اخرى لنيل حقوقها الكاملة في المجتمع اللبناني، من الكوتا في الانتخابات، والمساواة مع الرجل، وصولاً لحقها في استعادة الجنسية. فهل تصمد ام محمد امام الغلاء الفاحش؟. ومن يتحمّل مسؤولية "التعاسة" التي يعاني منها عشرات الآلاف من اللبنانيين المحرومين شمالاً وجنوباً وجبلاً وبقاعاً وعاصمةً؟. ومن يحمي حقوق الانسان والعجزة في لبنان؟.
أم محمد ليست سوى نموذج صغير وبسيط لمن خاتنه الحياة، ونسته الدولة والايادي الخيرة، ولمن تخلى عنهم القدر تاركاً لعنته تسرح وتمرح في ايامهم...تركنا الكورنيش، وكانت صاحبة العربة الصغيرة و"الكنزة الحمراء القديمة" ما تزال ماضية في رحلتها المستمرة ترفض الاستسلام او التعب او الخمول، فتبيع الدخان وحبات السكاكر بصمت مخنوق لتعيش...وتنتظر.