تجدهم في كل مكان... على الصخور، والارصفة، وفي "الشخاتير" الصغيرة، يحملون شباكهم واحلامهم وافكارهم وهمومهم، ويرمونها في عرض البحر الازرق وامواجه الحرّة العالية التي تتكسّر تباعاً، وبسرعة متناغمة، تماماً كالطيور التي خرجت خلسةً من اقفاصها تبحث عن وطن جديد لم تره اعينها منذ زمن غابر بعيد.
تراهم لساعات وساعات ينتظرون بأجسادهم التي اكتسبت السمرة الداكنة من شدة حرارة الشمس. يتأملون في الأفق، بين السماء الملبّدة بكثير من الاسئلة، وبين البحر الواسع المليء بالاجوبة والصور والتمنيات...وطبعاً الاسماك.
لا يهتم الصيادون المنتشرون على طول الشاطىء اللبناني بما تشهده البلاد من احداث وصراعات سياسية، ومعارك ضارية، وشجارات على المنابر، وتشويش وتصعيد وتبادل للاتهامات. فالسياسة بالنسبة لهم "اصطياد في الماء العكر" لا يجلب سوى مزيد من الاقتتالات والتوترات والتصرفات الغوغائية، و"ما بطّعمي خبز" على قول احدهم الذي فضّل الابتعاد عن "الجدل البيزنطي" الذي يملأ البلاد ليهتم اكثر بتأمين لقمة عيشه، في وقت تتراجع فيه الاحوال المعيشية والاقتصادية يوماً بعد يوم.
وسيلة ناجعة لقهر الوقت
تقاعد السيد البيروتي صبحي عيتاني من مهنته الادارية قبل حوالي خمس سنوات، لتكثر اوقات فراغه بعد عقود من العمل الجاد والمتعب خلف مكتبه المليء بالمعاملات التي كانت تنتظر اعادة النظر قبيل الموافقة عليها وختمها وتوقيعها. ليجد الرجل السبعيني في "هواية" الصيد وسيلةً ناجعة "لقهر الوقت الضائع"، و"لتمضية لحظات هادئة بعيداً من ضوضاء المدينة، وضجيج شارع الملعب البلدي والاختناق المروري اليومي حيث يقطن.
نشاط "الرجل المتقاعد" يكاد يكون شبه يومي، فتراه جالساً على احدى ارصفة المنارة – عين المريسة، وبحوزته كرسي صغير قابل للطيّ، وقصبة طويلة، وسلة تحوي مستلزمات الصيد وطعوم "للضحايا الاسماك". هذا فضلاً عن السيجارة الطويلة التي يشعل نارها بانتظار ان تعلق "الرزقة الآتية من قعر البحر".
يؤكد العمّ صبحي انه هاو صيد لا اكثر ولا اقل، "اذ تتملكني متعة كبيرة عندما ارتاد هذا المكان بالذات، وتكتمل هذه السعادة اكثر عندما انجح في اصطياد عدد لا بأس به من الاسماك، هذا فضلاً عن الصبر الذي اكتسبه خلال الانتظار الطويل الذي قد يدوم لساعات وساعات في اليوم".
الحمدالله مستورة
ليس بعيداً من صبحي عيتاني وساعات الانتظار الطويلة، يجلس الصياد ابو حمزة شهاب على كرسيه البلاستيكي في مسمكة المنارة على مقربة من مرفأ الصيادين بعد يوم طويل من العمل الشاق والمتعب. فالصياد الذس يمارس مهنته منذ اكثر من 25 عاماً، يبدأ عمله الساعة الثالثة فجراً، ليجوب عرض البحر واضعاً الشباك في المياه، ليعود عند التاسعة صباحاً ويلتقط غلّة الاسماك التي علقت "بفخّ شباكه".
لحمزة ثلاثة اولاد، "تربّوا وكبروا، وهاهم اليوم يرتادون المدارس ويحضّرون انفسهم للانتقال من المرحلة المتوسطة الى المرحلة الثانوية". فيرى حمزة ان مهنة الصيد التي احترفها ساعدته على تغطية المتطلبات والحاجيات والتكاليف المالية والاقتصادية لعائلته الصغيرة، "الحمدالله مستورة على رغم كل الصعوبات المعيشية التي نواجهنا، الا اني تمكنت عبر مزاولة الصيد، سدّ الكثير من العقبات وتأمين لقمة العيش بالحد الادنى".
لا يكون الصيد موفقاً بحسب حمزة "اذا كانت الامواج عالية نسبياً والبحر هائجاً او اذا شهدنا تقلًباً في حالة الطقس، ولهذا تجدنا في ايام كثيرة في فصل الشتاء غير قادرين على ممارسة الصيد بسهولة، وهو امر من شأنه ان يبقينا دون عمل، وان يهدد ارزاقنا بشكل او بآخر".
انا بعشق البحر...
تقول الاغنية: "انا بعشق البحر، ساعات زيّك مجنون، وساعات زيّك حيران، وساعات زيّك عشقان...انا بعشق البحر". هذه الكلمات، وهذا الإمتنان " للأزرق العظيم" تجده في عيون كل واحد من اولئك الصيادين الكبار والصغار على امتداد الشاطىء اللبناني.
اما محمد المصري فيقول: "يجعلني البحر انسى كل الهموم والمشاكل التي اعانيها في المنزل او في الحياة بشكل عام، لأنه عندما اكون في "شختورتي" الصغيرة، ارمي الشباك وانتظر الاسماك، أرتاح نفسياً ومعنوياً، وهو شعور سحري اكاد لا استطيع وصفه بكل صراحة... باختصار "بتروّق راسك عالبحر، وبتنسى همومك كمان".
يذهب محمد بعيداً في تعلّقه بالبحر الى اقصى الحدود، "فاذا خيّرت في السكن على اعلى قمم الجبال، وفي افخم منازل بيروت، سأختار العيش وسط البحر امارس الصيد بكل راحة بال وطمأنينة، لأن ذلك اصبح جزءاً لا يتجزّاً مني، ولا يمكن ان اتخيّل نفسي يوماً خارج المياه المالحة، لأني اصبحت مع الوقت كالسمكة التي تموت وتفارق الحياة اذا اخرجتها من الماء، لا اكثر ولا أقل"...
شارف اليوم الطويل على الانتهاء، والشمس شارفت على المغيب، وحمزة يعدّ العدة مرة اخرى للغوض في عرض البحر بحثاً عن لقمة العيش "من الفجر...حتى النجر
سلمان العنداري SA
تراهم لساعات وساعات ينتظرون بأجسادهم التي اكتسبت السمرة الداكنة من شدة حرارة الشمس. يتأملون في الأفق، بين السماء الملبّدة بكثير من الاسئلة، وبين البحر الواسع المليء بالاجوبة والصور والتمنيات...وطبعاً الاسماك.
لا يهتم الصيادون المنتشرون على طول الشاطىء اللبناني بما تشهده البلاد من احداث وصراعات سياسية، ومعارك ضارية، وشجارات على المنابر، وتشويش وتصعيد وتبادل للاتهامات. فالسياسة بالنسبة لهم "اصطياد في الماء العكر" لا يجلب سوى مزيد من الاقتتالات والتوترات والتصرفات الغوغائية، و"ما بطّعمي خبز" على قول احدهم الذي فضّل الابتعاد عن "الجدل البيزنطي" الذي يملأ البلاد ليهتم اكثر بتأمين لقمة عيشه، في وقت تتراجع فيه الاحوال المعيشية والاقتصادية يوماً بعد يوم.
وسيلة ناجعة لقهر الوقت
تقاعد السيد البيروتي صبحي عيتاني من مهنته الادارية قبل حوالي خمس سنوات، لتكثر اوقات فراغه بعد عقود من العمل الجاد والمتعب خلف مكتبه المليء بالمعاملات التي كانت تنتظر اعادة النظر قبيل الموافقة عليها وختمها وتوقيعها. ليجد الرجل السبعيني في "هواية" الصيد وسيلةً ناجعة "لقهر الوقت الضائع"، و"لتمضية لحظات هادئة بعيداً من ضوضاء المدينة، وضجيج شارع الملعب البلدي والاختناق المروري اليومي حيث يقطن.
نشاط "الرجل المتقاعد" يكاد يكون شبه يومي، فتراه جالساً على احدى ارصفة المنارة – عين المريسة، وبحوزته كرسي صغير قابل للطيّ، وقصبة طويلة، وسلة تحوي مستلزمات الصيد وطعوم "للضحايا الاسماك". هذا فضلاً عن السيجارة الطويلة التي يشعل نارها بانتظار ان تعلق "الرزقة الآتية من قعر البحر".
يؤكد العمّ صبحي انه هاو صيد لا اكثر ولا اقل، "اذ تتملكني متعة كبيرة عندما ارتاد هذا المكان بالذات، وتكتمل هذه السعادة اكثر عندما انجح في اصطياد عدد لا بأس به من الاسماك، هذا فضلاً عن الصبر الذي اكتسبه خلال الانتظار الطويل الذي قد يدوم لساعات وساعات في اليوم".
الحمدالله مستورة
ليس بعيداً من صبحي عيتاني وساعات الانتظار الطويلة، يجلس الصياد ابو حمزة شهاب على كرسيه البلاستيكي في مسمكة المنارة على مقربة من مرفأ الصيادين بعد يوم طويل من العمل الشاق والمتعب. فالصياد الذس يمارس مهنته منذ اكثر من 25 عاماً، يبدأ عمله الساعة الثالثة فجراً، ليجوب عرض البحر واضعاً الشباك في المياه، ليعود عند التاسعة صباحاً ويلتقط غلّة الاسماك التي علقت "بفخّ شباكه".
لحمزة ثلاثة اولاد، "تربّوا وكبروا، وهاهم اليوم يرتادون المدارس ويحضّرون انفسهم للانتقال من المرحلة المتوسطة الى المرحلة الثانوية". فيرى حمزة ان مهنة الصيد التي احترفها ساعدته على تغطية المتطلبات والحاجيات والتكاليف المالية والاقتصادية لعائلته الصغيرة، "الحمدالله مستورة على رغم كل الصعوبات المعيشية التي نواجهنا، الا اني تمكنت عبر مزاولة الصيد، سدّ الكثير من العقبات وتأمين لقمة العيش بالحد الادنى".
لا يكون الصيد موفقاً بحسب حمزة "اذا كانت الامواج عالية نسبياً والبحر هائجاً او اذا شهدنا تقلًباً في حالة الطقس، ولهذا تجدنا في ايام كثيرة في فصل الشتاء غير قادرين على ممارسة الصيد بسهولة، وهو امر من شأنه ان يبقينا دون عمل، وان يهدد ارزاقنا بشكل او بآخر".
انا بعشق البحر...
تقول الاغنية: "انا بعشق البحر، ساعات زيّك مجنون، وساعات زيّك حيران، وساعات زيّك عشقان...انا بعشق البحر". هذه الكلمات، وهذا الإمتنان " للأزرق العظيم" تجده في عيون كل واحد من اولئك الصيادين الكبار والصغار على امتداد الشاطىء اللبناني.
اما محمد المصري فيقول: "يجعلني البحر انسى كل الهموم والمشاكل التي اعانيها في المنزل او في الحياة بشكل عام، لأنه عندما اكون في "شختورتي" الصغيرة، ارمي الشباك وانتظر الاسماك، أرتاح نفسياً ومعنوياً، وهو شعور سحري اكاد لا استطيع وصفه بكل صراحة... باختصار "بتروّق راسك عالبحر، وبتنسى همومك كمان".
يذهب محمد بعيداً في تعلّقه بالبحر الى اقصى الحدود، "فاذا خيّرت في السكن على اعلى قمم الجبال، وفي افخم منازل بيروت، سأختار العيش وسط البحر امارس الصيد بكل راحة بال وطمأنينة، لأن ذلك اصبح جزءاً لا يتجزّاً مني، ولا يمكن ان اتخيّل نفسي يوماً خارج المياه المالحة، لأني اصبحت مع الوقت كالسمكة التي تموت وتفارق الحياة اذا اخرجتها من الماء، لا اكثر ولا أقل"...
شارف اليوم الطويل على الانتهاء، والشمس شارفت على المغيب، وحمزة يعدّ العدة مرة اخرى للغوض في عرض البحر بحثاً عن لقمة العيش "من الفجر...حتى النجر
عنك بحرية يا ريّس...
ردحذفانا بعشق البحر
ردحذف