زمن الصوم ... ودرب الجلجلة الطويل |
احتفل المسيحيون قبل اسبوعين باثنين الرماد الذي يرمز الى بداية زمن الصوم. توجّهوا الى الكنائس في كلّ مكان، وحضروا القداديس ورتّلوا معاً، حيث رُسمت على جباههم اشارة الصليب من الرماد تذكيراً بأنهم رماد الى رماد وتراب من تراب، وبأن الانسان من التراب والى التراب يعود.
وزمن الصوم المسيحي يشير الى التوبة، اذ يتوجب على المسيحيين التخلي عن الامور المادية والدنيوية. فالنبي دانيال في سفره في الكتاب المقدّس تحدّث عن الصوم باعتباره تعبيراً عن محبّة المؤمن للّه ورغبته في التقرّب منه والخضوع لسلطاته.
وفي العهد الجديد كان للصوم مكانة مهمة في تأكيد علاقة المسيحي مع الله، وقد التزم به رسل المسيح والمؤمنون على مر تاريخ الكنسية منذ نشأتها وحتى يومنا بهذا التقليد تعبيراً عن ايمانهم الثابت بالسيد المسيح وقيامته.
فقبل عيد الفصح بـ46 يوماً، يبدأ المسيحيون صومهم المبارك، كتقليد كنسي وعمل ايماني يسبق ذكرى موت المسيح وقيامته. فمنهم من يقضي اسابيعاً من الصمت والصلاة والتعمّق في اكتشاف الجذور من خلال التأمل والتقشّف والصدق كعيش اختبار الاتحاد بالمسيح في موته وقيامته.
المسيحيون في المشرق العربي، بدأوا صيامهم، في وقت تمرّ فيه المنطقة بأكملها بأوضاع سياسية دقيقة وحسّاسة، على وقع الثورات والمتغيرات والقتل الذي يمارسه اكثر من نظام قرر مواجهة الشعب في محاولة لوقف الاحتجاجات المطالبة بالتغيير.
ووسط هذه الصورة، يخاف المسيحيون على مستقبلهم في هذه المنطقة، باعتبارهم اقليات مهجوسة تعيش في منطقة مسلمة بغالبيتها. فمن بيت لحم، مروراً بالاردن، ومن العراق وسوريا وصولاً الى لبنان ومصر، يسعى المسيحيون الى الصمود في ظلّ العواصف الاقليمية وضبابية المستقبل.
وهذا الخوف المصحوب بكثير من المبالغات في بعض الاحيان، يطلّ برأسه لدى فئة واسعة من المسيحيين في المنطقة. فتفجير كنسية سيدة النجاة والاعمال الارهابية التي قامت بها جماعات تكفيرية في العراق والتي ادت الى تهجير اكثر من 80% من المسحيين في بلاد ما بين النهرين، اضافةً الى ما حصل في القاهرة والاسكندرية قبل اشهر قليلة من مواجهات وسياسات كادت ان تُشعل نزاعاً طائفياً في مصر، تُعتبر بمثابة كابوس يلاحق هذه الجماعة الخائفة من المستقبل.
ويعتبر بعض المسيحيين ان سيطرة تيارات اسلامية على الحكم بعد سقوط الانظمة سيؤدي الى تهجيرهم واضطهادهم والبطش بهم، فيما يرى فريق اخر ان الامر غير صحيح وان مشاركتهم في هذه الثورة واجب واساسي لاعادة صياغة الخارطة السياسية للعالم العربي، وان اي نظام دكتاتوري لا يمكن ان يحميهم من القتل والتهجير او الاضطهاد.
وفي هذا الاطار، عقد في العاصمة اللبنانية بيروت قبل ايام مؤتمر بعنوان "ربيع العرب تحوّلات وانتظارات"، تحدّث فيه المطران بولس مطر، رئيس اساقفة بيروت للموارنة، اذ اعتبر ان "الربيع العربي الآتي هو بداية جديدة لن تعرف استقراراً سهلا"، داعياً الإسلاميّين الى التفكير "في نظام حكم يقرّ للمسيحيّين بالمكانة التي لهم في دنيا العرب"، مشدّداً على أنّ "المسيحيّين هم من نسيج هذه المنطقة، وهم فيها قبل الدعوة الإسلامية بستة قرون".
المسيحيون في الشرق الأوسط تعرّضوا في السنوات الماضية لكثير من الضغوطات ادت الى تصاعد مخاوفهم وهواجسهم، من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والعنف في العراق، وصولاً الى "التشدد الإسلامي" والأزمة الإقتصادية والانقسامات بين كنائس المنطقة، بالاضافة الى عدم الاستقرار السياسي والامني في لبنان.
ووفقا لإحصائيات حديثة، فإن المسيحيين كانوا يمثلون نحو 20% من سكان المنطقة قبل قرن، لكنهم الآن يمثلون 5% ولا تزال النسبة في انخفاض، ولم يعد عدد المسيحيين في الشرق الأوسط سوى 20 مليونا بينهم خمسة ملايين كاثوليكي من أصل اكثر من 356 مليون نسمة.
كما تشير دراسات نشرت العام الماضي ان نسبة المسيحيين انخفضت في تركيا من 20 % في أوائل القرن العشرين إلى 0.2% اليوم. كما يرى البعض أن نزوح المسيحيين من العراق منذ الغزو الأمريكي عام 2003 قد يؤدي إلى اختفائهم من العراق.
وبالحديث عن هذه المخاوف ناقش مجمّع "سينودس الاساقفة" الخاص بأساقفة الشرق الأوسط في مدينة الفاتيكان اواخر عام 2010، أسباب نزوح مسيحيي الشرق الأوسط ومدى تمتعهم بالحريات الدينية وسبل الوئام بين جيرانهم المسلمين. اذ حذروا من أن تناقص أعداد المسيحيين في الشرق الأوسط ونزوح الآلاف منهم تحت ضغط التوترات السياسية سوف يؤدي إلى اختفائهم.
بالمحصّلة، قد يكون زمن الصوم هذا مفصلي ورمزي وتاريخي لكل مسيحي في المنطقة، خاصة وان المستجدات المتسارعة من شأنها ان تقرر الصورة التي سترسو اليها الامور في العالم العربي. فهل يتخلّى المسيحيون عن مخاوفهم، وهل ستبقى هذه الهواجس قائمة، والى اي حد سيستمر هذا النزف، وتستمر معها الهجرة من المشرق العربي، وهل النظام العربي الجديد قادر على استيعاب المسيحيين واحتضانهم واحترام خصوصيتهم الثقافية والدينية، ام ان الامور ستدفع نحو مزيد من الاسئلة والمخاوف والتحديات، ليبقى درب الجلجلة مدجّج بالمصاعب والاحداث والآلام؟.
سلمان العنداري ... SA
لا خوف على اي من الطوائف لان الرب واحد والمعبود واحد وهو الله
ردحذف