التحقيقات السرية .... |
لا يختلف اثنان أن التحقيقات المستترة تتسم بالإثارة وتجذب أعداداً هائلة من القراء أو المشاهدين خاصة واننا نعيش في عصر الكتروني سريع، يحبّ التشويق، ويركض نحو السبق الصحفي والاخبار الملفتة والمثيرة للجدل. ولهذا النوع من التحقيقات سلبيات وايجابيات.
ولا يُخفى على احد ايضاً ان اللجوء الى هذا النوع من التحقيقات يكون ناتجاً عن واقع معين، يدفع الصحفي الى اعتماد هذه الطريقة كخيار اخير لاستكمال قصّته ولايجاد الحقيقة التي يبحث عنها.
فعالمنا العربي "الرسمي" لا يؤمن بحرية الحصول على المعلومات والوثائق الرسمية، ويُبعد الصحفي عن قلب الحقيقة، ليدفعه هذا الواقع الى خوض المغامرة، والى المخاطرة بحياته في عين العاصفة للحصول عمّا يريد ان يعرفه.
احياناً تحتاج بعض القصص الى التخفّي او لعب دور المحقق. واجد في هذا الامر "ضرورة" في بعض الحالات باعتباره "آخر الكيّ" لاستكمال تفاصيل القصة التي يعالجها الصحفي.
الا ان هذا النوع من الحقيقات اذا تخطّى الخط الاحمر، يتحول الى عمل ينتهك الخصوصية، وينتهك الانظمة والقوانين، ويعرض الصحفي والمؤسسة التي يعمل لديها خطر الملاحقة القانونية وحتى الامنية في كثير من الاحيان. وبالتالي فالامر اشبه بالرقص على الحبال في قعر هاوية.
كاميرا خفية تجتاح مسلخ بيروت وتفضح المستور ...
منذ اسابيع، صوّرت الزميلة ليال ابو موسى من قناة الجديد اللبنانية تحقيقاً سرياً من قلب مسلخ بيروت للّحوم، والتقطت عدسة هاتفها الجوال مشاهد بشعة للطرق غير القانونية وغير الخاضعة لمعايير السلامة والنظافة العامة في ذبح اللحوم. علماً ان التصوير في هذه المنطقة يحتاج الى طلب رسمي.
صباح اليوم التالي انشغلت وسائل الاعلام اللبنانية بهذه القضية، ولدى سؤال الزميلة ليال عن سبب قيامها بهذا الموضوع، ومخاطر تعرضها للمسائلة القانونية، اجابت ان "القانون لا يحمي المغفّلين، وما بُني على باطل فهو باطل، لان صحة المواطن تبقى الاهم من بعض القوانين والتشريعات، اذ تكفي مشاهد الذبح الفاضحة لكي يتحرك القضاء ليحاسب اصحاب المسلخ بدل ملاحقة الصحفي الذي يبحث عن الحقيقة".
تجربة شخصية متواضعة
اما على الصعيد الشخصي، فقد لجأت الى هذا النوع من التحقيقات في عدد من المرات، ليس بهدف الاثارة والتشويق والمخاطرة، انما بهدف الوصول الى الحقيقة الكاملة بدون اي "مكياج". مع التأكيد اني لم اتخطى حدودي ولم اخالف الاخلاقيات الصحفية العالية التي اؤمن بها. بل على العكس، تمكنت من كسر جدار الصمت في عدد من الامور، التي تحولت الى قضية رأي عام تحدث عنها الجميع.
الدواء المزوّر والتلاعب بالاسعار...
عام 2009، وفي اطار تحقيق مهم كنت اتابعه عن "تزوير الدواء في لبنان والتلاعب بالاسعار"، حاولت الاتصال بأكثر من صيدلية في كل المناطق اللبنانية وطلبت اجراء بعض المقابلات للاجابة على التساؤلات التي يسألها المواطن اللبناني حول تزوير الدواء والتلاعب بالاسعار، الا اني لم اوفّق في هذا الموضوع، اذ رفض اصحاب الصيدليات اعطائي اي اجوبة.
وعندما استنفذت كل المحاولات، قمت بالتخفي بصفة مريض، وزرت اكثر من صيدلية طالباً شراء دواء يعالج داء المفاصل، لأكتشف ان الاسعار تختلف من صيدلية الى اخرى، وان بعض الصيدليات لا تلتزم بلائحة الاسعار التي توزعها وزارة الصحة اللبنانية، الامر الذي يعتبر تخطياً للقانون والانظمة المعمول بها.
وبعد لمسي "لمس اليد" حقيقة الامور، والفروقات الفاضحة في الاسعار بين صيدلية واخرى، قمت باخطار نقيب الصيادلة، في خلال مقابلتي معه، وفور نشر التحقيق، قام النقيب بمؤتمر صحفي، وحذر الصيادلة من التلاعب بالاسعار.
بعد التحقيق شعرت بأني حرّكت الرأي العام بهذه القضية، وتمكنت من خدمة المصلحة العامة. مع الاشارة الى ان التحقيق كان متوازياً ومهنياً وغي رمنحازاً. انما كشف عن حقيقة مرّة يعانيها القطاع الصحّي في لبنان.
يبقى الاهم عند اجراء اي تحقيق سري او مستتر عدم مخالفة القوانين او الكشف عن وثائق بالغة الحساسية وتؤدي الى زعزعة الامن العام والاستقرار، او تهدد العيش المشترك والسلم الاهلي الداخلي. لان الاهم يبقى صحة المواطن والمصلحة العامة. لأن الانزلاق في لعبة السبق الصحفي قد يودي بالصحفي الى المجهول.
ملاحقة عصابات اطفال الشوارع...
عام 2010 كتبت تحقيقاً مهماً حرك الرأي العام اللبنانية ووزارة الداخلية، تناول عمالة الاطفال في لبنان، واستغلالهم من قبل عصابات منظمة في العاصمة بيروت، لدفعهم للتسوّل في الشوارع.
والمعلوم ان الاطفال يرفضون الحديث امام الكاميرا، ويخافون طرح الاسئلة والاجابة عنها، ولهذا قمت باجراء تحقيق ميداني بصفة مواطن عادي، فجلت في شوارع بيروت وراقبت هؤلاء الاطفال، ورصدت تحركات 3 فتيات وفتى، لاكتشف ان عصابة مؤلفة من رجلين تقوم بارشادهم وتدير حركة تسوّلهم. وتمكنت من الحصول على معلومات قيمة من الاطفال عندما اعطيتهم مبلغاً من المال، وحاولت مساعدتهم باعتباري مواطن عادي على الطريق، لتكشف قصّتي تواطؤ عصابات كبيرة تستغل عشرات الاطفال مالياً وانسانياً.
الموضوع حرّك الرأي العام، وشجّعني على متابعة قضاياهم بتحقيقات لاحقة. ليعلن بعد اسابيع قليلة وزير الداخلية الاسبق زياد بارود سلسلة اجراءات سريعة لمعالجة اوضاعهم والقبض على العصابات التي تستغلهم.
تجدر الاشارة الى اني كنت استشير مدير التحرير في كل خطوة اقوم بها، وكنت حريصاً على احترام خصوصية الافراد وعدم مخالفة القوانين في بحثي عن المجهول في القصص التي كنت اكتبها. وجريدة النهار التي نشرت فيها مقالاتي معروفة بالتزامها هذه المعايير المهنية.
دخول عالم الايمو ...
اضافة الى ذلك، هناك بعض التحقيقات المهمة التي قمت بها خلال السنوات الماضية استعملت فيها طريقة "التحقيقات السرية او المستترة" بدرجات مختلفة. خاصة عندما قمت بتحقيق عن "الايمو" في لبنان، اذ حاولت ارتياد الاماكن التي يرتادها شباب "الايمو" كما يطلق عليهم، لأكتشف اسلوب حياتهم عن قرب. وتمكنت في احد المرات من مقابلة شاب حاول الانتحار لاكثر من مرة، ويعيش حالة من الكآبة الشديدة نتيجة "غرقه" بطقوس الايمو الغريبة.
وبعد اخذ ورد، "اخترقت" خصوصية هذه الجماعة، وقرر هذا الشاب ان "يفتح قلبه" ويتحدث عن مآسي ومعلومات حسّاسة عن هذا الموضوع باعتباري صديق.
بعد فترة كشفت للشاب عن هويتي الصحفية، وبأني اتابع هذه القضية الحساسة والمهمة، وحاولت اقناعه بمنطق بضرورة نشر قصّته، واكدت له اني لن انشر اي كلمة قالها لي في حال عدم موافقته على ذلك.
الا انه وبعد موافقته على نشر التفاصيل التي اطلعني عليها. وبعد استكمالي لكل جوانب القصة، تمّ نشر المقالة في جريدة النهار اللبنانية، وتعرّف المجتمع اللبناني لاول مرة على حياة هؤلاء المراهقين وعلى الاسباب الاجتماعية والنفسية التي ادت بهم الى دخول عالم الايمو بشكل او باخر.
باختصار.
في المحصّلة يمكن القول ان الصحافة رسالة سامية واخلاقية، وعلى الصحفي ان يبحث عن الحقيقة لا عن المشاكل والملاحقات وانتهاكات خصوصية الافراد. الصحافة مهنة شريفة لخدمة المجتمع ولزيادة نسبة الوعي لا العكس.
سلمان العنداري ... SA
المقالة المنشورة بالتعاون مع مدوّنة خطّ احمر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق