ينتحر الكلام في الذكرى السابعة لاغتيال الصحافي - الرمز سمير قصير. في وقت يمرّ الربيع في بيروت الحزينة مرور الكرام. تتلاشى الامال والاحلام، وتنتحب الاقلام الصارخة هرباً من خجل، ومن وعد لم يتحقق، ومن عار ملحوق بشعارات مهترئة.
سمير قصير، بيروت تعيش خريفاً لا سابق له. الشعب الذي آمنت به عاد الى طائفيته ومذهبيته. الوحش الكبير يعبث في كل شيء، حتى في الكرامات. وقيادات انتفاضة الاستقلال تتلهّى بالتحضير للانتخابات، اذ بدأت البواسط تتحضّر لاستقطاب اصوات الناس المساكين مستعينةً بخطاب طائفي قذر.
قد اكون متشائماً، وقد يقال اني اتحدث بنظرة سوداوية لا تمت الى الواقع بصلة. ولكن ما يحدث اليوم على الارض، لا يليق بشعب نزل الى الساحات، وافترش الارض، وزلزل العالم عام 2005.
انتفاضة الاستقلال تحتضر يا سمير. وهذا البلد لم يعد يطاق بهذه الطبقة السياسية المزيفة التي باعت الناس الشعارات بالجملة والمفرّق، وها هي اليوم تعيش على نوستالجيا شديدية الاكتئاب.
وعدونا بالمنّ والسلوى، وبأن انتفاضة الارز ستستمر، ولن تنكسر. الا ان لبنان اليوم لا يشبه لبناننا الذي حلمنا به، وسعينا من اجله. فالمذهبية يا سمير قاتلة، مخزية، مطبوعة بوسمة احتقار.
بيروت لم تعد رمزاَ كبيرا في دنيا العرب كما قلت، صغُرت على مدى السنوات السابقة، ولم تكبر فجأة دون ان يتوقع احد ذلك. بات الخوف يحتويها، والعبث يُتعب انفاسها، وروائح النار والرماد والبارود تُنهكها.
تقزّمت بيروت، وعادت الى خرابها. تبكي على نفسها. اخواتها في العروبة سبقوها. وها هي سوريا اليوم ترسم مستقبلها بالدمّ. اما عاصمتنا التي نحبّها ترسم خطوط العار على جبينها، فبات القتل رخيص، والانسان ارخص بكثير.
لا يا سمير، لم تقم بيروت من الخوف، لقد عادت الى صمتها، الى زمن التسلّط، الى العصر الحجري. ففي شوارعها قمع وذلّ واذلال، وظلم وحقد مدفون. 14 اذار كما 8 اذار، حركات ضائعة في التاريخ، مفصومة، بعيدة عن ناسها وعن شعبها. انتهت الثورة يا سمير لأنهم ارتضوا لأنفسهم ان يتقاسموا هذا البلد، كما ان الناس والثوّار ارتضوا ان يُبقوا على هذه الطبقة السياسية البائسة واليائسة التي تسرق الناس، وتستغلهم في كل شيء.
قبل 37 عاماً، كانت بيروت القتيلة الأولى في مسلسل الموت العربي. وبعد 37 عاماً، بيروت تقتل نفسها وعنفوانها والقها، ومستقبلها ايضاً.
اعذرني يا سمير، على هذه النظرة التي انقلها اليك، الا اني لم اعد اشعر اني مواطن حرّ في بلد حرّ. والدموع تحتبس في عينيّ، لان الناس هنا قرروا بيع كراماتهم بالسخرة، بخطابات طائفية لم تعد تليق بنا كشباب واعد وطموح في هذا البلد.
صديقي سمير، لست مستسلماً على الاطلاق، لقد انتظرت لسنوات على امل انبعاث بيروت من جديد، الا ان رائحة دخان الدواليب المحروقة، وقلوب الامهات الثكلى، وخراب العقول، وتسلّط رجال المال والاعمال انهكني واتعبني، وافقدني الشعور بالانتماء.
ترى هذه الطبقة تزرع اليأس في كل مكان. تصارع كوحوش ضارية وكذئاب متلهفة للموت، من اجل كسرة خبز تسترقها من فم فلّاح او مسكين. يتسابقون على كسب اصوات الناس، ولا يدرون ان شعب لبنان العظيم يموت جوعاً.
سمير... في فمي ماء، واشعر باختناق شديد، اشعر بالغرق في بحيرة وحل قذرة، جرّاء ما يحدث في هذه الارض الملعونة. حكومة ومعارضة. يمين ويسار، شمال وجنوب. يأكلني الحزن... وغضب شديد يعتريني.
الاحباط ليس قدراً ولن يكون يا سمير، انا لست بمحبط، ولن اكون. الا ان الحقيقة تستوجب علينا ان نقف امامها وان نواجهها. على امل ان يقوم اصحاب من يدّعون الثورة بانتفاضة في الانتفاضة، وبثورة على انفسهم علّهم يتغيرون، ويفسحون بالمجال امام طبقة سياسية جديدة.
ختاماً يا سمير،الراقد في السماء، وفي قلوبنا جميعاً. اتمنى ان تصلّي معي لاجلهم. لأجل شعب هذا البلد، لأجل بيروت التي فقدت نكهتها، والتي اصبحت كفنجان قهوة لا طعم له ولا لون. عُد الينا يا سمير، واصرخ بهم في الساحات، علّهم يعودون الى ربيع بيروت، ويتوقفون عن قطف الازهار والدوس عليها كل يوم.
سلمان العنداري ... SA
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق