مما لا شك فيه ان زيارة البابا بندكتوس السادس عشر
للبنان شكّلت حدثاً استثنائياً مميزاً بكل اشكاله، اعاد الروح الى صورة لبنان
الحقيقية المتمثلة بالتعايش المشترك بين كل مكونات المجتمع المسلم والمسيحي، في
وقت تشهد فيه البلاد مجموعة من الاحداث الامنية والسياسية الدقيقة.
البابا في زيارته التاريخية اعاد لبنان الى موقعه
الحقيقي، ولو لبضعة ايام فقط. فبعد اسابيع واشهر من الاحداث الامنية والسياسية ومن
الاشتباكات المسلّحة والخلافات بين مختلف القوى والاحزاب، حلّ السلام فجأة على
لبنان من شماله الى جنوبه، بمناسبة قدوم البابا.
البابا في زيارته البالغة الاهمية حيّا مسيحيي الشرق بأكمله، وحيّا كل
فرد في هذا العالم، وحيّا لبنان الوطن النموذج للعيش بسلام وحوار وتعايش وتفاعل،
في لحظة يمر بها الشرق الاوسط بادقّ اللحظات خطورةً.
ولهذا وبحسب البابا، فإن التعايش اللبناني، يجب أن يظهر للشرق الأوسط
بأكمله ولباقي العالم أنه من المستطاع ايجاد داخل أمة ما التعاون بين مختلف
الكنائس، وكلها أعضاء في الكنيسة الكاثوليكية الواحدة، بروح مشاركة أخوية مع
المسيحيين الآخرين، وفي الوقت نفسه، التعايش المشترك والحوار القائم على الاحترام
بين المسيحيين واخوانهم من أديان أخرى.
وشدد البابا على اهمية الاعتدال الحقيقي والحكمة الكبيرة ومن ضرورة أن
يتغلب العقل على العاطفة الفردية لتعزيز الخير العام للجميع. مشيراً الى ان
التوازن اللبناني الشهير، والراغب دائماً في أن يكون حقيقة واقعية، سيتمكن من
الاستمرار فقط بفضل الإرادة الحسنة والتزام اللبنانيين جميعاً.
رسائل
البابا للمسيحيين كانت واضحة ومهمة ولافتة، اذ دعاهم الى ان يبقوا "اقلية
فاعلة" في الشرق الاوسط. وكان جانبا آخر من رسالة البابا الدعوة الى "انقاذ
التعددية الدينية لانقاذ المسيحيين".
ولفت
البابا الى "حقيقة ان المسلمين والمسيحيين والدروز في لبنان يذهبون كل يوم
الى المدرسة معاً ويحملون الكتب ذاتها ويمتلكون المعلمين ذاتهم". ورأى ان
"هذا الانفتاح الفريد من نوعه في هذا الجزء من العالم يجب ان يصان".
اللقاء
مع البابا كان مؤثراً في مشهد نادر في منطقة الشرق الاوسط التي تغصّ بالصراعات
الدينية والعنفية والعقائدية، فلبنان وحده يبقى بلد التنوّع والحوار الحقيقي في
المنطقة، بالرغم من كل المشاكل التي يغرق بها كل فترة. وكما قال البابا فإن "التوازن اللبناني الشهير" يمكن أن يشكل نموذجاً لكل
الشرق الأوسط وللعالم بأسره، وهذا التوازن سيتمكن من الاستمرار فقط بفضل الإرادة
الحسنة والتزام اللبنانيين جميعاً.
زيارة
البابا اعطت المسيحيين دفعاً الى الامام في الاستمرار بالعيش في منطقة الشرق
الاوسط، وفي تفعيل دورهم كأقلية دينية في المنطقة، وفي ممارسة دور مميز في رسم
الملامح المقبلة لمستقبل المنطقة. ولهذا كان الارشاد الرسولي الذي وقّعه البابا،
للتشديد على اهمية الدور المسيحي والوجود المسيحي في هذه المنطقة، وللتشديد على
اهمية العيش مع المسلمين ورفض التشدد الديني.
والارشاد الرسولي الذي وقعه الحبر الاعظم أمس،
تحت عنوان "الكنيسة في الشرق الاوسط شهادة ورسالة"، جاء في 58 صفحة
وثلاثة فصول من ابرز عناوينها الحياة المسيحية والحوار بين الاديان والهجرة
والبطاركة والاساقفة والعلمانيين والتعليم.
وشدد الارشاد على أن "الحرية الدينية هي تاج
كل الحريات وهي حق مقدس غير قابل للتفاوض"، ووصف الشرق الاوسط بأنه
"يختبر العلمانية بأشكالها والاصولية العنيفة والهجرة المأسوية"، داعيا
اليهود والمسيحيين والمسلمين الى "اكتشاف الرغبة الالهية في تناغم العائلة
البشرية".
ويذكر ان
"وجود المسيحيين والمسلمين في الشرق الاوسط ليس عرضيا او حديثا انما هو
تاريخي". ويفرد فصلا مهما لموضوع التطرف الديني، اذ يرى "أن الغموض الذي يكتنف الاوضاع الاقتصادية والسياسية ومهارة
التأثير لدى بعضهم والفهم الناقص للدين هي من العوامل التي تشكل تربة خصبة للتطرف
الديني" الذي "يصيب كل الجماعات الدينية ويرفض التعايش المدني
معا".
واطلق الارشاد "نداء ملحا لجميع المسؤولين
الدينيين اليهود والمسيحيين والمسلمين في المنطقة كي يسعوا من خلال مثالهم
وتعاليمهم الى فعل كل ما هو ممكن بهدف استئصال هذا التهديد الذي يستهدف بلا تمييز
وبشكل قاتل مؤمني جميع الديانات".
البابا بحسب ناشطين وخبراء، تمكّن من كسر جدار
الازمة في لبنان، ومن فتح صفحة جديدة لكل مكونات الشعب اللبناني، الا ان السؤال
يبقى: هل يستفيد اللبنانيون من هذه الزيارة؟، وهل يتعزّز الحوار والتفاهم بعد
سنوات من الاقتتال والتوتر؟.
سلمان العنداري ... SA
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق