كل شيء في فالوغا يهمس بصمت وبفرح. الطرقات
الواسعة والازقة الضيّقة، الادراج الطويلة التي تحتفظ بين طبقاتها بذكريات واخبار
ولمسات قديمة، الى الجبل العالي المُكلل باول علم لبناني رُفع عام 1943، وتلة ارز
وينابيع المياه العذبة.
للقرية معالمها الطبيعية والسياحية
والعمرانية، الا انه لـ"صالون فهد للحلاقة" قصّة اخرى ومميزة... ففي
الصالون الذي يديره ويملكه فهد العنداري، لا يقتصر الامر على "حلاقة
ذقن" او "قصّ شعر"، فهذا المكان الواقع وسط القرية، ليس مكاناً
عادياً على الاطلاق، اذ تحوّل مع مرور السنوات الى متحف بكل ما للكلمة من معنى.
بنادق قديمة، تحف، وقطع اثرية ونحاسية نادرة،
احجار قديمة واشكال صدفية، مرايا وحبال، وخناجر... باختصار، تأخذك الجلسة في صالون
فهد الى عالم اخر بعيد كلياً عن عالمنا التقليدي الغارق بالمشاكل والاخبار
المقزّزة والمتعبة والمملة.
فالتحف وكثرة القطع القديمة تلك، تجعلك
مغامراً يبحث في ثنايا الجبال وقممها، وفي اعماق البحار ودهاليز الاودية عن سرّ
ما، عن اسطورة مخفية ومخبّأة بين هضبة وتلة...
المحاربون والاحصنة والتماثيل، الافاعي
الغاضبة على الجدران والخناجر المعلقة بين الحجر التقليدي والقطع الاثرية، كل شي
يتحدث في صالون فهد عن تاريح وعراقة، وعن هوية ضائعة تبحث عن نفسها.
في الصالون، حصان من حجر، وصقر من حديد،
وسمكة قررت ان تستريح على حجرة صغيرة، ومسبحة من حجر كريم نادر وباهظ الثمن.
في الصالون، مرايا تعكس صورة الماضي
والمستقبل في ان معاً، سحر غريب يأخذك الى مكان جميل ويُخرجك من القفص الذي تعيش
فيه، فتضيع في زوايا وخبايا هذا المكان الرائع الذي تحول بالفعل الى ايقونية من
الحكايات .
غزال هارب تلاحقه بندقية قديمة، وصيّاد حذر
يمشي بين اشجار ووريقات خريف تُحدث صوتاً وحفيفاً، فيتنبّه الصقر المحلّق في
الاعالي، لينقضّ على ارنب صغير يحاول الجري على تلة مزهرة باقحوانات الربيع.
قصص واخبار وصور تلاحقك في خلال جلسة
"قصّ الشعر" السريعة... يرتاح "الزبون" نفسياً. يركن في صمته،
يسأل "المعلم فهد" عن كل قطعة، ليبدأ الرجل قصّته الشخصية مع
"صالونه" الذي يشبه الى حدّ كبير "لبنان الحقيقي" الذي نبحث
عنه.
بدأ فهد بممارسة "مهنة الحلاقة"
قبل اكثر من 25 عاما، عندما كان شاباً في مقتبل بالعمر، اذ تعلّم المهنة من قريب
له، ليدير بعد سنوات "صالوناً"متواضعاً وسط القرية، كبر بين يديه كطفل
صغير، ليخرّج بعد ذلك عدداً كبير من "الحلّاقين" من مختلف المناطق
اللبنانية في وقت كان زعماء الحرب يخرّجون كل يوم ميليشيات مسلّحة تزرع الحقد
والقتل والبغضاء في كل مكان.
بعد سفر صاحب العمل الى الكويت بفعل الحرب
الاهلية اللبنانية وصعوبة الحياة في لبنان، قُدّر لفهد ان يديرالصالون، بعد ان
تسلّم "دفّة السفينة" و"عدّة الحلاقة" من "المعلّم
سامي". ومذاك الحين بدأت رحلة فهد باحتراف هذه المهنة.
الا ان فهد، المعروف بحسّه الفنّي وهدوئه،
أضاف الى الصالون لمسة خاصة، حوّلته من مكان عادي الى متحف صغير مليء بالقصص
والقطع والاحجار النادرة...
"اعشق تجميع التحف القدمية والقطع
الاثرية منذ ايام الصبا، اذ تمكنت على مدى سنوات من البحث المتواصل ان اجمع مئات
القطع الصغيرة والكبيرة"، يقول فهد "ولهذا اتخذت القرار ان اشارك الناس
بعضاً منها في هذا الصالون الذي اقضي فيه معظم وقتي".
اضافة الى صور بيروت القديمة، يمتزج لون الحجر
القديم في الصالون بالاضاءة الخفيفة التي تُشعرك بالغربة والدفء في آن... قناديل كاز
وباقات من الزهر، "مكنات خياطة قديمة" ومذياع شهد على الزمن، وثريّا
استعادت بريقها بحرّاس وملائكة يحملون شعلات النار والنور... كل تلك الادوات
والقطع تجدها في صالون فهد على وقع اغاني فيروز القديمة، و"كاسيت" كان
غير شكل الزيتون.
السقف القديم الذي استحدثه فهد قبل 3 سنوات،
أضاف الى جدران الصالون الزرقاء الحياة والألق... وبين كرسي "الحلاقة" وجلسة القهوة في الخارج، حديث يطول عن شغف لا
ينتهي، وولع بفنّ يستحق التنويه والتحية.
صالون فهد، هو الصورة الناصعة التي نسعى
اليها في لبنان... انتهت الزيارة، ومعها انتهت المغامرة الخاطفة بين دهاليز فرشاة،
وتعرّجات مقصّ... فهل نصل يوماً الى لبنان الذي نحلم به؟.
سلمان العنداري ... SA
تحقيق نُشر بالتزامن مع جريدة النهار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق