منذ أيام، وبينما كنت أقرأ كتاب "في الزوايا خبايا" لسلام الراسي الذي يقدّم طائفة من المأثورات والأمثال اللبنانية القديمة، لفتتني القصة الآتية:
"يحكى أن عمّاراً كان يبني قنطرة، فمرّت أمامه فتاة جميلة وهي تختال بفستان زاهي الألوان تظهر خلاله تقاسيم جسمها الفتّان، فتعثر العمّار وهوى عن القنطرة ومات، وعندما علمت زوجته بما حدث، رفعت شكواها الى السلطان "قرقاش"، وطلبت أن تشنق الفتاة تحت القنطرة التي سقط زوجها عنها، فأمر السلطان بإحضار الفتاة، فقالت إن الذنب ليس ذنبها، بل ذنب الخياط الذي فصّل لها الفستان بدقة وإتقان، فرفعه من مكان وضيّقه من مكان، فبدا من مفاتن جسمها لعين العمّار ما بدا، حتى فقد الاتزان...
بعد ذلك التفت قرقاش وقال: "كفى"، وامر بإحضار الخياط الذي قال بدوره إن المسؤول هوالتاجر الذي باع القماش لأنه شفاف تتخايل تحته الأرداف وسائر الأطراف...، فصاح قرقاش: "كفى، اجلبوا التاجر واشنقوه تحت القنطرة"...
قبض رجال السلطان على التاجر، وجاؤوا به ليشنقوه، فوجدوه أطول من القنطرة بحيث يتعذر شنقه تحتها، ولهذا راجعوا السلطان بالأمر، فقال: "اقبضوا على أول رجل قصير يمر واشنقوه لكي تتأيد العدالة وتتحقق"...
وهكذا حصل، اذ جاؤوا برجل قصير وشنقوه... وحدث أن صديقاً للرجل مرّ فرآه معلقاً، فقال: "ما هو ذنب هذا الرجل حتى شنقوه؟"، قالوا له: "ذنبه أنه طلع قد المشنقة"، وبعد ذلك جرت هذه العبارة مثلاً..."
بعد قراءتي لهذه القصة المشوقة والمجحفة بحق الرجل القصير، أدركت جيداً أن اللبنانيين "طلعوا قد المشنقة"، وكذلك البلاد بأسرها.
ولأن لبنان يحتل موقعاً استراتيجياً مهماً في المنطقة، ويشكل صلة وصل بين الشرق والغرب وبين سائر الثقافات والأديان الأخرى، فإنه تحوّل مع الوقت ساحة صراع عنيفة يتقاتل عليها الكبار والصغار، وحيكت له المؤامرات والفتن والحروب، ليسقط تدريجاً في فخ الأزمات الدائمة والمتجددة عند كل مفترق واستحقاق إقليمي أو دولي أو حتى داخلي.
فالعمّار المسكين، أغرته أيادٍ حاقدة، فهوى ومات قبل استكماله بناء القنطرة المزعومة، وهكذا وبتواطؤ كل الأطراف المتصارعة، أصبح من المحظورات على بلد الأرز بناء دولة حرة مستقلة وقوية لا تدخل في آتون الحسابات الكبرى، لأنّ ذلك لا يحقق مصالحهم في إبقاء هذه الأرض غابة تناقضات لا قانون فيها ولا حدود لها.
وبعد البحث والتدقيق في الأمور، يتضح للجميع، أن كلاً من السلطان والفتاة المثيرة، والخيّاط والتاجر، وحتى زوجة العمّار، مسؤولون عن قتله والرجل القصير أيضاً، وهذا بالضبط ما يحدث عندنا في لبنان، فلكل من سوريا واسرائيل مصلحة أساسية في إبقائه ورقة نزاع ليس إلا، مفتوحة على كل الاحتمالات، تخضع للتفاوض، وحيناً آخر للتفجير والإحراق المتعمّد، (وقصة الخط الأحمر الفاضحة بين القوات السورية والاسرائيلية إبان الحرب الأهلية اللبنانية خير دليل على هذه المقولة)، فضلاً عن "الكباش الأميركي – الإيراني" المحتدم، والتهديدات المتبادلة بين الطرفين، والتي لا تترجم سوى بمزيد من التصعيد الداخلي والتعطيل والإفقار والتيئيس، وفتح باب الهجرة على مصراعيه.
إذاً، من حقي أن أسأل، كما سأل صديق الرجل المعلق، ما ذنب هذا الشعب حتى يشنق ويقتل ببطء شديد؟ ما ذنبه حتى يبقى معلقاً بحبال اليأس في انتظار صفقة ما في مكان ما؟ وهل قدرنا أن نستمر في دفع الفواتير المستحقة عن غيرنا، وتسديد الأثمان الباهظة من خلال إبقاء لبنان من شماله الى جنوبه جبهة مفتوحة ومكشوفة، أو لعبة شطرنج سائبة؟.
على أي حال ومهما كثرت الأسئلة واستمر تعليق المشانق بحقنا، قد لا نملك شيئاً سوى الانتحاب والبكاء على واقعنا، والقول: "إننا طلعنا قد المشنقة"، و"طلعت براسنا".
سلمان العنداري ... SA - طلعنا قد المشنقة - مقالة كتبتها لإحدى الصحف اللبنانية، واجدها مناسبة لكل مكان وزمان لأن لبنان سيبقى على هذا المنوال... بلد الصراعات والكباشات الاقليمية والدولية للاسف...
اللبناني يشنق كل يوم ... وتستمر لعبة الخارج على حسابنا |
"يحكى أن عمّاراً كان يبني قنطرة، فمرّت أمامه فتاة جميلة وهي تختال بفستان زاهي الألوان تظهر خلاله تقاسيم جسمها الفتّان، فتعثر العمّار وهوى عن القنطرة ومات، وعندما علمت زوجته بما حدث، رفعت شكواها الى السلطان "قرقاش"، وطلبت أن تشنق الفتاة تحت القنطرة التي سقط زوجها عنها، فأمر السلطان بإحضار الفتاة، فقالت إن الذنب ليس ذنبها، بل ذنب الخياط الذي فصّل لها الفستان بدقة وإتقان، فرفعه من مكان وضيّقه من مكان، فبدا من مفاتن جسمها لعين العمّار ما بدا، حتى فقد الاتزان...
بعد ذلك التفت قرقاش وقال: "كفى"، وامر بإحضار الخياط الذي قال بدوره إن المسؤول هوالتاجر الذي باع القماش لأنه شفاف تتخايل تحته الأرداف وسائر الأطراف...، فصاح قرقاش: "كفى، اجلبوا التاجر واشنقوه تحت القنطرة"...
قبض رجال السلطان على التاجر، وجاؤوا به ليشنقوه، فوجدوه أطول من القنطرة بحيث يتعذر شنقه تحتها، ولهذا راجعوا السلطان بالأمر، فقال: "اقبضوا على أول رجل قصير يمر واشنقوه لكي تتأيد العدالة وتتحقق"...
وهكذا حصل، اذ جاؤوا برجل قصير وشنقوه... وحدث أن صديقاً للرجل مرّ فرآه معلقاً، فقال: "ما هو ذنب هذا الرجل حتى شنقوه؟"، قالوا له: "ذنبه أنه طلع قد المشنقة"، وبعد ذلك جرت هذه العبارة مثلاً..."
بعد قراءتي لهذه القصة المشوقة والمجحفة بحق الرجل القصير، أدركت جيداً أن اللبنانيين "طلعوا قد المشنقة"، وكذلك البلاد بأسرها.
ولأن لبنان يحتل موقعاً استراتيجياً مهماً في المنطقة، ويشكل صلة وصل بين الشرق والغرب وبين سائر الثقافات والأديان الأخرى، فإنه تحوّل مع الوقت ساحة صراع عنيفة يتقاتل عليها الكبار والصغار، وحيكت له المؤامرات والفتن والحروب، ليسقط تدريجاً في فخ الأزمات الدائمة والمتجددة عند كل مفترق واستحقاق إقليمي أو دولي أو حتى داخلي.
فالعمّار المسكين، أغرته أيادٍ حاقدة، فهوى ومات قبل استكماله بناء القنطرة المزعومة، وهكذا وبتواطؤ كل الأطراف المتصارعة، أصبح من المحظورات على بلد الأرز بناء دولة حرة مستقلة وقوية لا تدخل في آتون الحسابات الكبرى، لأنّ ذلك لا يحقق مصالحهم في إبقاء هذه الأرض غابة تناقضات لا قانون فيها ولا حدود لها.
وبعد البحث والتدقيق في الأمور، يتضح للجميع، أن كلاً من السلطان والفتاة المثيرة، والخيّاط والتاجر، وحتى زوجة العمّار، مسؤولون عن قتله والرجل القصير أيضاً، وهذا بالضبط ما يحدث عندنا في لبنان، فلكل من سوريا واسرائيل مصلحة أساسية في إبقائه ورقة نزاع ليس إلا، مفتوحة على كل الاحتمالات، تخضع للتفاوض، وحيناً آخر للتفجير والإحراق المتعمّد، (وقصة الخط الأحمر الفاضحة بين القوات السورية والاسرائيلية إبان الحرب الأهلية اللبنانية خير دليل على هذه المقولة)، فضلاً عن "الكباش الأميركي – الإيراني" المحتدم، والتهديدات المتبادلة بين الطرفين، والتي لا تترجم سوى بمزيد من التصعيد الداخلي والتعطيل والإفقار والتيئيس، وفتح باب الهجرة على مصراعيه.
إذاً، من حقي أن أسأل، كما سأل صديق الرجل المعلق، ما ذنب هذا الشعب حتى يشنق ويقتل ببطء شديد؟ ما ذنبه حتى يبقى معلقاً بحبال اليأس في انتظار صفقة ما في مكان ما؟ وهل قدرنا أن نستمر في دفع الفواتير المستحقة عن غيرنا، وتسديد الأثمان الباهظة من خلال إبقاء لبنان من شماله الى جنوبه جبهة مفتوحة ومكشوفة، أو لعبة شطرنج سائبة؟.
على أي حال ومهما كثرت الأسئلة واستمر تعليق المشانق بحقنا، قد لا نملك شيئاً سوى الانتحاب والبكاء على واقعنا، والقول: "إننا طلعنا قد المشنقة"، و"طلعت براسنا".
سلمان العنداري ... SA - طلعنا قد المشنقة - مقالة كتبتها لإحدى الصحف اللبنانية، واجدها مناسبة لكل مكان وزمان لأن لبنان سيبقى على هذا المنوال... بلد الصراعات والكباشات الاقليمية والدولية للاسف...